+
أأ
-

ما بين النار والصبر... تولد الأحلام

{title}
بلكي الإخباري

 

 

موسى ايهاب الشريف 

شيف اردني - الدنمارك 

لم تكن بدايتي في مطبخ راقٍ، ولا في قاعة تدريس. كانت البداية في الحياة ذاتها، حيث كان عليّ أن أتعلم العمل قبل أن أتعلم الحلم.

منذ طفولتي، تنقّلت بين أعمال يدوية مختلفة: عملت في محال بيع اللحوم، في التنظيف، وفي الجلي، وحملت على ظهري أكياسًا ثقيلة (شِوالات) في مستودعات ومتاجر،وكنت اساعد والدي في عمله.

كانت الحياة قاسية، ولكني لم أكن أهرب منها… بل كنت أبحث في داخلها عن طريق.

رغم بساطة تلك الأعمال، كنت أعود إلى البيت وأفتح مطبخنا الصغير لأجرّب.

كنت أطبخ، أرتّب الأطباق، وأتابع بكل شغف كل ما يخص عالم الفاين داينينغ.

كنت شابًا بسيطًا، لكن بداخلي شغف لا يمكن إسكاته.

كنت أُجري تجاربي، أصوّر أطباقي، وأتعلم من أخطائي، لأن الطهو كان أكثر من هواية بالنسبة لي  كان حلمي الأكبر.

في الأردن، بدأت أولى خطواتي نحو هذا الحلم.

شاركت في برنامج Leader Chef على قناة الأردن، وكان من بين الحضور الشيف خميس قويدر، منال عبيدة، والشيف مثنى البركات، الذين كان لهم أثر كبير في تشجيعي.

كما شاركت في مسابقات الطهي في الأكاديمية الملكية لفنون الطهي، تحت إشراف الشيف غادة التلي والشيف أحمد سمور، وهناك أدركت أن ما أملكه لم يكن مجرد شغف… بل موهبة تحتاج الفرصة فقط لتخرج إلى النور.

  تركيا – أول الطريق

كانت تركيا أول محطة حقيقية في حياتي المهنية.

بدأت العمل هناك بأجور متواضعة للغاية، وأحيانًا بدون أي أجر في البداية.

كنت أقول لهم: “جرّبوني لأسبوع أو أسبوعين، وإذا لم يعجبكم عملي فلا تأخذوني.”

لم أكن أتقن اللغة التركية بعد، وكان التواصل صعبًا، لكنني لم أسمح لتلك الحواجز أن توقفني.

كنت أعمل بصمت، أتعلم بالملاحظة، وأجتهد في كل تفصيلة صغيرة.

عملت في مطاعم متنوعة، ثم التحقت بدراسة أكاديمية في فنون الطهي.

درست، وتدرّبت، وعملت تحت إشراف طهاة أتراك محترفين، تعلمت منهم الانضباط، وإتقان التفاصيل، والاهتمام بالجوهر قبل الشكل.

ومن أكثر العبارات التي بقيت في ذاكرتي، قالها لي أحد الطهاة الأتراك:

“نحن لا نحتاج إلى اللغة… يمكننا أن نفهم بعضنا البعض من خلال الطبخ.”

لم يكن الأمر سهلاً، لكن كل يوم كنت أقف فيه خلف الموقد كان يعلّمني معنى جديدًا للصبر، وكان يقربني خطوة من حلمي.

 

ألمانيا – مدرسة الحديد والنار

في ألمانيا، كان التحدي أقسى وأعمق.

كنت أبدأ عملي في الثالثة فجرًا، وأحيانًا لا أنام أكثر من ثلاث ساعات.

عملت مع طهاة من إيطاليا، من أصحاب الخبرة العريقة في مطاعم الفاين داينينغ، ومنهم من يمتلكون مطاعم مرموقة في روما وميلانو.

كما عملت جنبًا إلى جنب مع طهاة من إسبانيا، وألمانيا، وإندونيسيا، وتعلمت من كل واحدٍ منهم ثقافة مختلفة، ونمطًا مختلفًا في الإدارة، والتذوق، والإبداع.

كنت أراقب، أتعلم، وأنفذ، وكانت المطابخ التي دخلتها بحجم ملاعب كرة قدم.

في بيئة كهذه، لا يُعترف بك بالسن أو الجنسية — بل بالعمل وحده.

البرتغال – المذاق المتوسطي والعالمية

في البرتغال، بدأت مرحلة النضوج المهني.

عملت مع طهاة من البرازيل، الأرجنتين، إسبانيا، وإيطاليا — بعضهم حاصل على نجوم ميشلان.

كما عملت مع طهاة محترفين من البرتغال، هولندا، فنلندا، تشيلي، وبيرو، وقد شكّل كل منهم مدرسة مختلفة في الطهو، حملت معها نكهات وثقافات وتجارب من القارات الخمس.

وكانت التجربة الأعظم في عملي مع الشيف الشهير هاينز بيك في مطعم gusto by Heinz Beck – 3 Michelin

و الشيف  Liborio Buonocore 1 Michelin.

في تلك البيئة، لا مجال للخطأ. كل حركة محسوبة، وكل طبق يحمل توقيعًا.

كنتُ الوحيد في المكان الذي لا يحمل جنسية أوروبية، ولا دخل بواسطة توصية أو علاقة.

لكني كنت الأذكى، والأسرع، والأكثر جوعًا… جوعًا للنجاح.

كنت أقاتل كل يوم لأُثبت أن الموهبة لا تحتاج أوراقًا، بل تحتاج إرادة، وشخص لا يعرف معنى الراحة.       

الدنمارك – الإبداع البارد والنظام الصارم

في كوبنهاغن، دخلت عالمًا من الانضباط والدقة، والاهتمام العميق بالتفاصيل.

عملت في مطاعم راقية، قدّمت أطباقًا مستوحاة من المطابخ الإيطالية، الفرنسية، والإسكندنافية، وتعاونت مع طهاة من بريطانيا، فرنسا، إيطاليا، وأستراليا — كانوا من أشدّ الطهاة صرامة والتزامًا بمعايير الجودة والكمال.

حاليًا، أعمل مع طهاة دانماركيين مخضرمين، من الجيل القديم، يحملون خبرات عميقة في فنون الطهي الأوروبية، ويتعاملون مع المطبخ كفنٍّ مقدّس لا يقبل التهاون.

كان كل طبق يُعدّ كأنه لوحة فنية، وكل طبق يُقدَّم كأنه وُلد للتو.

في هذا البلد البارد، اشتعل الإبداع أكثر… ونضجت شخصيتي المهنية.         

 

الرسالة – لمن يشبهني

لا أقول إنني وصلت.

لأن كل مرة أظن فيها أنني بلغت القمة… أكتشف جبلًا جديدًا عليّ أن أتسلقه.

وهكذا هي الحياة: لا تمنحك فرصة لتقف طويلاً، بل تدفعك دائمًا للأعلى… أو للأسفل، إن لم تكن مستعدًا للقتال.

أنا لا أعتبر نفسي رمزًا.

أنا مجرد شاب بدأ من الصفر، حمل شغفه على كتفيه، وبنى طريقه بيده.

لم أملك المال، ولا الجنسية، ولا العلاقات. لكنني كنت أملك ما يكفي لأبدأ: رغبة حقيقية، واستعداد لدفع الثمن.

إلى كل من يشبهني…

إلى كل شاب يقرأ هذه الكلمات وهو يُصارع الحياة في مكان ما:

لا تنتظر أن يقول لك أحد “أنت قادر” — أثبت ذلك بنفسك.

لا تنتظر الفرصة — اصنعها، أو اكسر بابها.

الحياة لا تنتظر الضعفاء، ولا ترحم المترددين.

لكنها تنحني أمام من يواصل التقدّم، حتى ولو كان يزحف.

وفي النهاية، أقولها ببساطة كما يقول الالمان:

Erfolg ist kein Glück –

النجاح ليس حظًا… بل نتيجة شغل، تعب، وخطوات كثيرة فوق أرضٍ صلبة.