+
أأ
-

فيجا ابو شربي تكتب : ما بعد إيران

{title}
بلكي الإخباري

 

قد يبدو سقوط إيران لحظة مبهجة للبعض، ونهاية لمشروع توسعي أضر بالمنطقة لعقود، لكن خلف هذه اللحظة تكمن حقيقة مرعبة: سقوط إيران ليس نهاية الخطر، بل بدايته. ليس المقصود فقط انهيار النظام، بل تفكيك الدولة نفسها، وتحويلها إلى كيانات عرقية ومذهبية متناثرة، تمهيدًا لمرحلة أوسع: إعادة تشكيل الشرق الأوسط بأكمله وفق مشروع "سايكس بيكو الجديد".

إيران، بما فيها من تناقضات داخلية، كانت دولة مركزية قادرة على فرض توازن نسبي في وجه تغوّل القوى الدولية والإقليمية. ومع سقوطها، تتكسر آخر أعمدة التوازن في الإقليم، وتُفتح أبواب ما يُعرف في مراكز القرار الغربية بـ"مشروع الشرق الأوسط الجديد"، وهو مشروع لا يهدف فقط إلى إعادة ترسيم الحدود، بل إلى تفكيك الكيانات الكبرى من الداخل، وتفريغها من وظيفتها السياسية والحضارية.

كما تفككت العراق وسوريا وليبيا من قبل، فإن المرحلة المقبلة في هذا المشروع تستهدف مصر وتركيا والسعودية، كل على طريقته.

مصر، بما تمثله من عمق ديمغرافي ورمزي للعالم العربي، تواجه محاولات لإعادة رسم دورها. سيناريو التقسيم لم يعد خيالًا:

سيناء تُطرح اليوم كمنطقة عازلة أو بديل جغرافي لحلول التهجير.

دلتا النيل تُحاصر عبر التحكم في المياه.

القاهرة تُستنزف سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا لإسقاط مركزيتها.

أما تركيا، فالمخطط يبدأ من إشعال النزعات الكردية في الجنوب الشرقي، وخلق واقع انفصالي مشابه لنموذج كردستان العراق. يُضاف إلى ذلك تحريك الورقة العلوية داخل النسيج التركي، واستنزاف القوة التركية في صراعات متعددة من سوريا إلى القوقاز.

سقوط إيران لن يملأه فراغ محايد، بل ستتسابق القوى الكبرى لاحتلال هذا الفراغ.

أمريكا ستعود بقوة لتفرض وصايتها تحت شعار “حماية الملاحة والأمن”.

إسرائيل ستتمدد سياسيًا وعسكريًا باعتبارها "المنقذ الوحيد" القادر على ضبط الإيقاع الأمني.

الصين وروسيا ستتلقى ضربة موجعة بخسارة حليف استراتيجي، مما يعيد أمريكا إلى موقع القطب الأوحد.

والأخطر من كل ذلك: أن سقوط إيران سيطلق يد إسرائيل بالكامل، في تنفيذ مشروع تهجير غزة، وفرض أمر واقع جديد على الضفة والقدس، بلا رادع إقليمي.

كل هذا يجري بينما تنشغل الشعوب بخصوماتها الصغيرة، وتفرح بسقوط خصومها دون أن ترى أن الدور عليها قادم. مشروع "تفكيك المقسّم" يعمل بهدوء ودقة، لا لإعادة رسم خرائط استعمارية جديدة، بل لإزالة فكرة الدولة ذات السيادة بالكامل، واستبدالها بكيانات طائفية أو مناطقية وظيفتها فقط تأمين مصالح الخارج.

حتى من يعتقد أن إيران "عدو"، عليه أن يفهم أن تفكيكها ليس نصرًا، بل مقدمة لسلسلة انكسارات قادمة. لن تقف عند حدود طهران، بل ستمتد إلى أنقرة، ثم القاهرة، ثم الرياض. وكأن المنطقة كلها تتحرك نحو لحظة "إعادة التأسيس القسري"، لحظة يُعاد فيها رسم الجغرافيا، ولكن هذه المرة على أنقاض الهوية والتاريخ والسيادة.

لا يمكننا النظر إلى سقوط إيران بمعزل عن السياق الأكبر. نحن أمام لحظة تاريخية فارقة، إما أن تُقرأ بوعي استراتيجي، أو تُدفَن في نشوة العداء القصير النظر. فالمسألة لم تعد "نحب إيران أو نكرهها"، بل: هل نفهم أن سقوطها هو سقوط لأحد أعمدة التوازن الإقليمي، وأن المشروع لا يتوقف عندها؟

العرب اليوم أمام خيارين: إما بناء مشروع إقليمي مضاد يعيد التوازن من داخلهم، أو الدخول فرادى إلى غرفة التفكيك، كل حسب دوره.