المهندس سعيد المصري يكتب : من "روابط القرى" إلى "خطة الحسم": الاحتلال الإسرائيلي بين محاولات الترويض ومشروع التهجير القسري

بقلم: المهندس سعيد المصري
في نهاية سبعينيات القرن الماضي، تبنى رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق مناحيم بيغن، بدفع من وزير دفاعه حينها أريئيل شارون، مشروع "روابط القرى" كأداة سياسية لمحاولة كسر احتكار منظمة التحرير الفلسطينية لتمثيل الشعب الفلسطيني. لم تكن تلك الروابط سوى محاولة لتفكيك الهوية الوطنية الفلسطينية، وصناعة قيادة محلية بديلة مدجنة، تخضع للمنظومة الاحتلالية دون أن تملك فعليًا أي سلطة حقيقية أو استقلال سياسي.
لكن تلك المحاولة فشلت فشلًا ذريعًا. فالمجتمع الفلسطيني، بحسه الجمعي، أسقط هذا المشروع في مهده، ورفض التعامل مع ممثلي "روابط القرى"، الذين لم ينالوا أي شرعية شعبية، وسرعان ما لفظهم الحراك الوطني الذي تصاعد باتجاه الانتفاضة الأولى عام 1987، والتي شكلت القطيعة الحاسمة مع وهم "التعايش تحت الاحتلال".
اليوم، وبعد مرور أكثر من أربعة عقود، نجد أنفسنا أمام نسخة أكثر شراسة وقسوة من ذات المشروع، ولكن بوجه مكشوف وسلاح مباشر، ضمن ما يُعرف بـ "خطة الحسم" التي يتبناها وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، أحد أبرز رموز اليمين الصهيوني المتطرف، وعضو رئيسي في حكومة نتنياهو الحالية.
الخطة التي تنفذ بالقوة: تجزئة جغرافية وتهجير داخلي
بعكس مقاربة "روابط القرى" التي اعتمدت على خلق واجهات محلية سياسية للتعايش مع الاحتلال، تقوم خطة سموتريتش على فرض وقائع جديدة على الأرض، تُنهي عمليًا أي وجود فعلي لما تبقى من سلطة فلسطينية أو مؤسسات وطنية. جوهر الخطة يقوم على:
- تجزيء المحافظات الفلسطينية عبر عزل المدن الكبرى (نابلس، الخليل، جنين، رام الله...) عن محيطها الريفي والقرى والمخيمات التي تشكل الامتداد الطبيعي لها.
- تقليص الحيز الجغرافي للفلسطينيين من نحو 5000 كم²، وهي المساحة الإجمالية للضفة الغربية، إلى ما لا يتجاوز 500–600 كم² من "قصبات المدن" المعزولة بالحواجز والجدران.
- فرض النزوح الداخلي القسري عبر التضييق الأمني والمعيشي، وإجبار سكان المخيمات والقرى المحيطة بالمدن على الانتقال قسرًا إلى داخل تلك القصبات الحضرية المكتظة.
- تفريغ أكثر من 85% من أراضي الضفة الغربية من سكانها الأصليين، تمهيدًا لاستيطانها، كخطوة حاسمة في طريق تحقيق ما يُعرف بـ"إسرائيل الكبرى".
التحول في أدوات السيطرة: من الهندسة السياسية إلى الهندسة الديمغرافية القسرية
يكمن الفارق الجوهري بين مقاربة بيغن ومشروع سموتريتش في النقلة من الهندسة السياسية إلى الهندسة الديمغرافية القسرية. ففي حين سعت إسرائيل سابقًا إلى خلق أدوات محلية لإدارة السكان الفلسطينيين تحت احتلال ناعم، فإن المشروع الحالي لا يعترف أصلاً بوجود "شعب" فلسطيني يستحق التمثيل أو الأرض، بل يتعامل مع الفلسطينيين كـ "مشكلة أمنية" يجب احتواؤها في جيوب سكانية مغلقة، على نمط "البانتوستانات" التي عرفها نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.
كما تسعى خطة الحسم إلى نسف ما تبقى من آثار اتفاق أوسلو أو الشرعية الدولية، عبر:
- إنهاء دور منظمة التحرير،
- وأي إمكانية لحل الدولتين،
- وتصفية فكرة الدولة الفلسطينية نهائيًا.
النهاية الإسرائيلية المأمولة: من روابط القرى إلى روابط السجن المفتوح
روابط القرى كانت محاولة هندسة فلسطيني "مطيع" يقبل الاحتلال بصيغته المدنية. أما خطة سموتريتش فتهدف إلى محو الفلسطيني نهائيًا، إما عبر الحصار، أو الطرد، أو الإخضاع القسري في جيوب محاصرة لا تصلح للحياة. وما بين المحاولتين، تبقى "النهاية الإسرائيلية المأمولة" هي تصفية الوجود الوطني الفلسطيني وتحويله إلى ملف إنساني داخل كانتونات محاصرة، تمهيدًا لإعلان السيادة الكاملة على كامل الضفة الغربية ضمن حدود "إسرائيل الكبرى".
لكن، كما أسقط الفلسطينيون روابط القرى، فإن وعيهم اليوم يُدرك خطورة مشروع الحسم، وسيظل حجر الأساس في إفشال هذه الخطة، رغم الثمن الباهظ.



















