وسام حمدان العياصرة. تكتب : التأثيرُ النفسيُّ للصراعاتِ على سُكّانِ غزةَ والدُّوَلِ المُجاوِرة

في كُلِّ مرةٍ نَفتحُ فيها الأخبارَ، أو نَمرُّ على صورةٍ من غزةَ، نَشعرُ بشيءٍ يَنكسِرُ في داخِلنا. قد لا نَكونُ نَحنُ تحتَ القصفِ، لكنَّنا لسنا بمنأى عن الحربِ. فالصراعاتُ لا تُدمِّرُ فقط الحَجَر، بل تَنخُرُ النَّفسَ والوِجدان، سواءً لِمَن يعيشُ وسطَ الدمارِ، أو لِمَن يُتابِعُه من بَعيد.
في غزةَ، يَعيشُ الإنسانُ في مُواجهةٍ مُستمرَّةٍ معَ الموتِ. القصفُ لا يُفرِّقُ بينَ منزلٍ ومدرسةٍ، بينَ امرأةٍ وطفلٍ. كثيرٌ من الأطفالِ هُناكَ يُعانون من أعراضِ اضطرابِ ما بعدَ الصدمةِ: كوابيسُ مُتكرِّرة، قَلَقٌ دائمٌ، وتَشتُّتٌ في الانتباهِ. لا وقتَ لديهم للطُّفولةِ؛ فكلُّ ما حولَهم يَصرُخُ بالخَطرِ.
الشُّعورُ بالأمانِ – وهو أحدُ ركائزِ الصِّحةِ النَّفسيَّةِ – يَتلاشَى حينَ يَتحوَّلُ البيتُ إلى هدفٍ للقصفِ، والمدرسةُ إلى مَلجأٍ مؤقَّتٍ. في ظلِّ هذهِ الظُّروفِ، لا يَبقى أمامَ الإنسانِ سوى البقاءِ في حالةِ تأهُّبٍ نفسيٍّ مُستمرٍّ، ممَّا يُؤدِّي إلى إنهاكٍ داخليٍّ وانهياراتٍ مُتكرِّرةٍ.
ومعَ استمرارِ الفَقدِ، وتَكرارِ المشاهدِ الدَّاميةِ، تَتبلَّدُ المشاعرُ عندَ البعضِ، ويُصبحونَ غيرَ قادرينَ حتَّى على البُكاءِ. التبلُّدُ هنا ليسَ بُرودًا، بل آليَّةٌ دفاعيَّةٌ يَلجأُ إليها العقلُ كَي يَنجو من طوفانِ الألمِ. البعضُ الآخَرُ يُعاني من نَوباتِ هلعٍ، واضطراباتٍ في النَّومِ، وسُلوكٍ عدوانيٍّ أو انسحابيٍّ، واضطرابٍ في الشَّهيةِ، خاصَّةً بينَ الأطفالِ والمراهقينَ.
لكنَّ هذهِ المُعاناةَ لا تَقفُ عندَ حدودِ غزةَ.
في الأردنِّ، ولبنانَ، ومصرَ، وسائرِ الدُّوَلِ المُحيطةِ، يَعيشُ الكثيرونَ في حالةِ تأثُّرٍ نفسيٍّ لا يَقلُّ عُمقًا. المُتابعةُ اليوميَّةُ للأحداثِ، والصُّوَرُ الصَّادمةُ، وفَقدانُ أقارِبَ أو أصدقاءَ، كُلُّها تُولِّدُ حالةً من القلقِ الجَمعيِّ والخوفِ من المجهولِ.
هُناكَ مَن يَشعرُ بالعجزِ: «أُريدُ أن أُساعدَ، لكن لا أَعرفُ كيف». هذا الإحساسُ يُولِّدُ شُعورًا خفيًّا بالذَّنبِ، خاصَّةً لدى مَن لديهم حساسيَّةٌ عاليةٌ، أو ارتباطٌ عاطفيٌّ بالقَضيَّةِ.
من جهةٍ أُخرى، يَتعرَّضُ العديدُ من المُعالِجينَ النَّفسيِّينَ، والصَّحفيِّينَ، أو حتَّى الأشخاصِ العاديِّينَ الذينَ يُتابِعونَ الحربَ عن قُربٍ، لما يُعرَفُ بالـ«صَدمةِ الثانويَّةِ»، وهي حالةٌ نفسيَّةٌ تَظهرُ فيها أعراضٌ تُشبهُ مَن يَعيشونَ الصَّدمةَ الفعليَّةَ، نتيجةَ التَّماهِي والتأثُّرِ العَميقِ.
في ظلِّ كلِّ هذا الألمِ، تَبقَى هناكَ ضَرورةٌ للتعامُلِ معَ هذهِ التأثيراتِ بوعيٍ ورَحمةٍ. لا يَكفي أن نَقولَ: «اصمُدوا»، بل علينا أن نَمنحَ مَساحاتٍ للتعبيرِ، ووسائلَ للتَّفريغِ، ونَعترفَ بأنَّ الألمَ النَّفسيَّ حقيقيٌّ، لا يَقلُّ خُطورةً عن الألمِ الجسديِّ.
الدَّعمُ النَّفسيُّ المُباشرُ، والحملاتُ التوعويَّةُ، والمَساحاتُ الآمنةُ للحِوارِ، كُلُّها أدواتٌ لمُواجهةِ هذا النَّزيفِ .
الحربُ لا تَقفُ عندَ هديرِ الطَّائراتِ، بل تَمتدُّ إلى الأحلامِ، وإلى صُدورِ الأُمَّهاتِ، وإلى دَفاترِ الأطفالِ، وإلى قُلوبِنا نحن – الَّذينَ نُتابِعُها من خَلفِ الشاشاتِ.
إنَّ مسؤوليَّتَنا لا تَقتصرُ على مُشاهدةِ الخَبَرِ أو الحزنِ عليه، بل تَمتدُّ إلى بناءِ وعيٍ نفسيٍّ جَماعيٍّ يُدرِكُ عُمقَ الألمِ، ويَحتويه، ويَتجاوَزه بكرامةٍ لا تَقبلُ الانكسارَ.



















