فيجا ابو شربي تكتب : فيروز... صوتٌ واسى أمة، فمن يواسيه اليوم؟

في وداع زياد، تتلعثم الكلمات وتتكسر اللغة على عتبات الصمت. فرحيله لم يكن حدثًا عابرًا في نشرات الأخبار، بل ألمًا يتسلل إلى القلب، لأنه أصاب فيروز، القلب الذي لطالما خفّف عنا الآلام بصوته.
فيروز التي كانت لنا في العزاء بلسماً، وفي الحروب رجاءً، وفي الغربة وطناً. فيروز التي لم تتأخر عن مواساة شعبٍ في محنة، أو أمة في نكبة، أو مدينة تنزف. غنت للقدس حين أوصدت أبوابها وظل صوتها طاير يزوبع في الضمائر ينشد ان "يصحي الضمير" .
غنّت لبغداد حين اشتعلت، لبيروت حين انكسرت، وللجنوب حين أثقله الوجع. غنّت لمكة حين تاقت الأرواح، ولشواطئ الإسكندرية ودفء مصر حين نادت على أحبابها. وغنّت لعمان المجد الذي لم يغب، ولم تنسَ دمشق، الشام العتيقة، حين خنقتها الدموع، فكانت فيروز صوت الياسمين في عزّ الغياب.
لم تكن فيروز مجرد صوت، بل كانت ذاكرةً تحفظ وجع الشعوب، وتاريخًا يروي حكاية أمة بأكملها.
غنّت للطفل الذي فقد أمه، وللأم التي تنتظر ولدها، وللشيخ الذي يودّع عمره، وللشباب الذين يحلمون بيومٍ أجمل. كانت لنا ما لم نستطع أن نكونه: الصبر، والرجاء، والجمال، والحنين.
فيروز لم تُغنِّ فحسب، بل ضمّدت الجراح. كانت لحنًا هدهد الأمهات في ليالي الخوف، وصوتًا سكن الوسائد حين أرهقنا التعب. كانت كالحلم الذي لا يُنسى، واليقين الذي لا يخون. تربّى أطفالنا على "يلا ننام"، كما تربّى آباؤهم على "زهرة المدائن"، وكأن صوتها رافق الأجيال عبورًا على جسر الحنين.
واليوم، حين يرحل زياد، رفيق دربها الفني، ابنها، نبضها، ملهمها ومتمرّدها، نسأل: من يواسي فيروز؟
كيف نرسم حرف المواساة لمن رسم حروف الأمل؟
هل تكفي الكلمات؟ هل تكفي القصائد؟ هل في اتساع الأوطان متّسع لقلب فيروز الذي أثقله الفقد؟
لسنا نملك ما نقدّمه لفيروز سوى الصمت الذي كانت تغنيه. سوى دمعةٍ خفية تسكن المآقي حين نسمع "رجعت الشتوية"، ونعلم أن الشتاء هذه المرة أكثر بردًا، لأن فيه فيروز وحدها.
يا فيروز... يا سيدة الضوء في عتمتنا،
يا التي كنتِ العزاء في فصول انكسارنا،
ولحن الأمل في جراحنا،
نقف اليوم أمام وجعك عاجزين.
لكننا نعلم أن صوتك، وإن اختنق بالحزن، سيظل هو، كما كان دومًا... بيتنا حين لا نجد بيتًا، وصوتنا حين يخذلنا الصوت.
رحل زياد، وغابت معه نغمة كانت منك وإليك،
لكن صوتك، ما زال يعلو فوق الفقد،
ويُغنّي لنا حين يعجز الكلام.
ولا زال فيك ما يكفي لمواساة العالم، وإن لم يبقَ من العالم من يواسيك.
لزياد الرحمة، ولعيني فيروز السكينة.



















