د. أسيد مطر :- فن الإدارة والتعامل بدبلوماسية: القيادة التي تلهم وتبني

"
في زمن تتشابك فيه الخيوط بين المهارات التقنية والقدرات الشخصية، وتصبح فيه العلاقات داخل بيئة العمل أشبه برقصة توازن دقيقة بين العقول والقلوب، يبرز فن الإدارة والتعامل بدبلوماسية كأحد أهم أعمدة القيادة المعاصرة، بل ويمكن القول إنه الفن الذي يميز القادة الحقيقيين عن المديرين العابرين، لأنه لا يقوم على إصدار الأوامر أو ملاحقة الأخطاء، بل على القدرة الفريدة على بناء جسور من الفهم المتبادل، وثقافة من الاحترام المتبادل، وأرضية من الثقة العميقة التي لا تهزها العواصف ولا تخيفها التحولات.
لم يعد ينظر إلى الإدارة باعتبارها مجرد وظيفة تمارس من خلف المكاتب أو عبر الاجتماعات الرسمية الصارمة، بل أصبحت أشبه بفن حي، يتطلب موهبة في الإصغاء قبل الحديث، وبراعة في قراءة ما بين السطور قبل اتخاذ القرارات. فالإداري الناجح لا يقاس بما ينجزه من تقارير، بل بما يتركه من أثر إنساني. إنه الذي يعرف متى يصمت ليترك للآخرين مساحة للتعبير، ومتى يتدخل ليوجه بحكمة، ومتى يلين دون أن يفقد سلطته احترامها، ومتى يشد دون أن يحدث انكسارا في الروح الجماعية للفريق.
الدبلوماسية في الإدارة ليست تجميلا للكلمات، بل جوهرها هو القدرة على فهم أعمق لمشاعر الآخرين، وتقدير ظروفهم، والتعامل معهم بوعي لا يصادر حقوقهم ولا يستهين بطاقاتهم. هي أسلوب حياة، يمارس في كل موقف مهما بدا بسيطا. فعندما يختلف اثنان في فريق العمل، ويشتد النقاش، لا يتدخل القائد الدبلوماسي بحسم مفرط ولا بانحياز خفي، بل يتقدم بخطى واثقة، يستمع للكل، ينصت لا ليجيب بل ليفهم، ثم يصوغ حلًا لا يشعر فيه أحد بالخسارة. فالدبلوماسية الحقيقية ترفض فكرة "الرابح الوحيد"، وتسعى دوما إلى "مكسب الجميع" وإن بدرجات متفاوتة.
لكن لا يجب أن ننسى أن العمل الناجح والمثمر في أي مؤسسة أو فريق هو عمل جماعي بالدرجة الأولى. القيادة الحقيقية لا تتمثل في الشخص الذي يقف بمفرده في دائرة الضوء، بل في الشخص الذي يعمل على تشجيع ودعم فريقه، ويقدر جهود كل فرد، مهما كانت صغيرة أو كبيرة. عندما يتكامل الجهد الجماعي، حين يساهم كل شخص بمهاراته الخاصة، وحين يشعر كل عضو في الفريق أن إسهامه يعتبر ويثمن، تتسارع وتيرة النجاح وتزدهر بيئة العمل.
فالعمل الجماعي هو أساس التحفيز المستمر، وهو الذي يجعل كل فرد يشعر بأنه جزء لا يتجزأ من نجاح المؤسسة. القيادة التي تدرك ذلك هي التي تحتفل بالإنجازات الجماعية، وتحفز الجميع على المضي قدما معا، دون النظر إلى من هو في المقدمة أو في الخلف. يجب أن يشعر كل عضو في الفريق بأنه قد أعطي الفرصة ليبرع ويظهر إمكانياته، وأنه مقدر على مستوى شخصي ومهني. فالتقدير لا يقتصر فقط على الإنجازات الكبيرة، بل يمتد ليشمل التقدم البسيط، والمساهمة الصغيرة التي تحدث فرقا.
فن التعامل الدبلوماسي في الإدارة لا يعني التخلي عن الحزم، بل هو القدرة على ممارسة الحزم بطريقة تراعي الإنسان، ولا تمزق نسيج الفريق. إنه يتطلب ذكاء عاطفيا راقيا، يمكن القائد من تمييز الانفعالات العابرة من المشكلات الحقيقية، ومن قراءة نبرة الصوت وحركات الجسد، لا فقط الكلمات. كما أنه يتطلب وعيا ذاتيا عاليا، يمنح الإداري القدرة على التحكم في ردود فعله، وتجنب الانجراف وراء المشاعر الشخصية، مهما كانت الضغوط أو الاستفزازات. وهذا النوع من الوعي لا يكتسب بين ليلة وضحاها، بل هو نتيجة لتراكم التجارب، والتأمل في المواقف، والتعلم المستمر من النجاحات والإخفاقات على حد سواء.
وفي هذا السياق، يمكننا القول إن فن الإدارة الدبلوماسية هو تزاوج بين الحكمة والرؤية. فهو يمكن القائد من النظر إلى ما وراء التفاصيل السطحية، إلى عمق العلاقات، ونقاط الالتقاء، والخلافات الكامنة. ويتيح له أن يكون وسيطا ماهرا، يعبر عن تطلعات مؤسسته بلغة يفهمها الموظفون، وينقل هموم الموظفين بلغة تقنع الإدارة العليا. إنه الجسر الذي يربط بين الأرقام والمشاعر، بين الطموحات الفردية والرؤية المؤسسية.
لقد بات من المؤكد أن المؤسسات التي تدار بروح دبلوماسية هي الأكثر قدرة على الصمود في وجه التحديات. فهي أكثر مرونة، لأن أفرادها يشعرون بالانتماء، ويتفاعلون بصدق، ويتبادلون الأفكار دون خوف. في مثل هذه المؤسسات، يصبح الموظف جزءا من الحل، لا مجرد منفذ للتعليمات. ويشعر الجميع أن صوتهم مسموع، وأن كرامتهم محفوظة، وأنهم ليسوا تروسا في آلة، بل شركاء حقيقيين في قصة نجاح تكتب كل يوم. وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كانت القيادة تدرك أن العمل الجماعي هو الذي يبني النجاحات، ويصنع الفرق الحقيقي.
ومن هذا المنطلق، يمكننا اعتبار فن الإدارة والتعامل بدبلوماسية ثورة هادئة على الأساليب البيروقراطية القديمة. ثورة تعيد تعريف السلطة، لا بوصفها حقا مطلقا، بل مسؤولية أخلاقية. تعيد تعريف القيادة، لا باعتبارها تفوقا في الدرجة، بل تطورا في الرؤية والإنسانية. وتعيد تعريف النجاح، لا باعتباره نتائج رقمية فحسب، بل علاقات إنسانية متينة، وأثرا إيجابيا يدوم حتى بعد مغادرة المدير لمكانه.
وفي الختام، لا يسعنا إلا أن نقول إن القائد الذي يتقن فن الإدارة الدبلوماسية هو ذاك الذي يفهم أن البشر لا يدارون فقط بالقوانين، بل بالعقل والروح معا. هو من يلهم قبل أن يملي، ويستمع قبل أن يتكلم، ويعالج الخلافات كما يعالج الطبيب الجراح، بدقة، وصبر، ووعي. هو من يخلق بيئة يكون فيها العمل متعة، والانتماء حقيقيا، والنجاح نتيجة طبيعية لعلاقات مبنية على الاحترام، لا على الخوف. في زمننا هذا، لم تعد هذه المهارات رفاهية، بل صارت ضرورة حتمية لكل من يسعى إلى قيادة حقيقية، مستدامة، وملهمة.


















