الدكتور أسيد مطر. يكتب : “ما بعد التوجيهي.. حين تولد الحياة من جديد

”
ها قد أُسدل الستار على عام دراسي طويل، حمل بين أيامه الأرق والسهر والخوف، وغمرت لياليه الدعوات والدموع والأمنيات. لحظة إعلان نتائج الثانوية العامة، تلك اللحظة التي تختزل مشاعر لا يمكن للكلمات أن تحيط بها، كانت كفيلة بأن تغير ملامح بيوت، وترسم على وجوه البعض ابتسامة نصر، وعلى وجوه آخرين صمتا موجعا لا يُقال.
لمن حقق النجاح، نبارك لكم، فقد أنجزتم ما كنتم تطمحون إليه، وقطفتم ثمار تعبكم، لكن تريثوا قليلا، فهذه ليست نهاية الرحلة بل بدايتها الحقيقية. الحياة لا تبدأ حين تُعلَن النتيجة، بل حين تقف في مفترق الطرق وتُسأل: ماذا تريد أن تكون؟ ما القيمة التي ستضيفها لهذا العالم؟ النجاح الحقيقي ليس في رقم يُكتب في شهادة، بل في مسار تبنيه بإرادتك، بخياراتك الحرة، برؤيتك الواضحة لما تريده من حياتك. لا تدع الأرقام تغرّك، ولا تتعلق بتخصص لأن الجميع يصفق له، بل انظر في داخلك، اسأل شغفك، واصغ لصوتك لا لضجيج الآخرين. الجامعة ليست مكانا لتسجيل المواد فقط، بل ساحة لصقل الذات، لاكتشاف من أنت، ومن تكون، ومن تريد أن تكون.
ولمن لم يحالفه الحظ هذا العام، تمهل أيضا، وامنح نفسك لحظة هدوء وسط العاصفة. أنت لم تخسر، أنت فقط لم تصل بعد، وهناك فرق شاسع بين من تعثر وبين من توقف. كم من قصة بدأت من خيبة؟ وكم من إنسان أعاد تشكيل حياته بعد سقطة ظن أنها النهاية؟ لا تجعل هذه النتيجة تكسر فيك شيئا. دعها تبنيك. دعها تكون نقطة التحول التي تخرج منك النسخة الأقوى، الأصدق، الأشد إصرارا. ليس عيبا أن تعيد التجربة، العيب أن تطفئ الضوء وتبقى في العتمة. لا تنظر للناس من حولك، لا تقارن نفسك بمن سبقك، فلكل منا توقيته الخاص، ورحلته التي لا تشبه أحدا.
أما إلى الأهل، إلى الأمهات اللاتي ذرفن الدموع في الساعات الأولى، والآباء الذين انتظروا المكالمات بقلق، نقول: أبناؤكم ليسوا درجات على سلم، ولا مشروعا للتفاخر أمام الناس. هم أرواح تحتاج لاحتواء، لحنان، لحب غير مشروط. لا تجعلوا من لحظة إخفاق جدارا بينكم وبينهم، بل كونوا حضنهم حين يخافون، وأمانهم حين يتهشم شيء في داخلهم. نجاحهم الحقيقي يبدأ من نظرة رضا في أعينكم، من كلمة دعم لا توبيخ، من احتضان لا اتهام.
وللمجتمع بأسره، آن الأوان أن نعيد تعريف النجاح، أن نكف عن صناعة وهم بأن التوجيهي هو بوابة الجنة أو جحيم الحياة. أن نؤمن أن كل إنسان يحمل في داخله بذرة تميز، وأن الفشل ليس نقيض النجاح، بل طريق إليه.
في النهاية، لا أحد يُسأل في الحياة عن نتيجته في الثانوية العامة، بل عن مساره، عن نوره الداخلي، عن أثره في من حوله. الحياة لا تمنح المجد لمن بدأ بقوة فقط، بل لمن استمر، وصمد، وأحب ما يفعل، وأخلص له.
وختاما، نتمنى للجميع التوفيق والسداد لمستقبل زاهر يحمل بين سطوره حلما صادقا، وطموحا نبيلا، وأثرا خالدا على المجتمع وعلى وطننا الأردن الغالي، الذي يستحق منا أن نبنيه بعقولنا وقلوبنا، وأن نرتقي به جيلا بعد جيل.


















