د. محمد رسول الطراونة : أنتِ الأساس... افحصي

مع إطلالة تشرين الأول/أكتوبر من كل عام، تكتسي مدننا باللون الوردي، ليس زينة فحسب، بل رسالة أمل وتضامن، ونداء يتردد في أرجاء الأردن، ليذكرنا بأن الوقاية خير من قنطار علاج، وأن الكشف المبكر عن سرطان الثدي هو السلاح الأقوى لمواجهة هذا المرض الذي لا يزال يحصد أرواح الآلاف من النساء حول العالم. في هذا الشهر، نرفع شعار "أنتِ الأساس... افحصي" مؤمنين بأن المرأة هي حجر الزاوية في بناء الأسرة والمجتمع، وأن الحفاظ على صحتها يعني الحفاظ على كيان الوطن بأكمله.
لطالما كانت المرأة الأردنية عنوانا للتضحيات والعطاء، فهي الأم التي وهبت حياتها لتربية الأجيال، وهي الابنة الحنون، والأخت المخلصة، والزوجة شريكة العمر. هي بحق "زينة الحياة الدنيا" ووعاء السكينة والمحبة. ومن هذا المنطلق، فإن الاهتمام بصحتها ليس مجرد واجب صحي، بل هو واجب وطني وإنساني وأخلاقي. فكيف نطلب منها أن تعطي دون أن نمنحها حقها الأساسي في الرعاية الصحية الشاملة؟ إن توعيتها وتشجيعها على الفحص الدوري هو أقل ما يمكن أن نقدمه لها مقابل كل ما تقدمه.
لا يمكن الحديث عن مكافحة سرطان الثدي في الأردن دون الوقوف بإجلال أمام "البرنامج الأردني لسرطان الثدي"، هذه المبادرة الوطنية الرائدة التي تقودها سمو الأميرة غيداء طلال، رئيسة مجلس أمناء مؤسسة الحسين للسرطان، منذ اطلاقها في عام 2007. من خلال رؤية ثاقبة وإرادة صلبة، استطاع هذا البرنامج أن يحوّل التحديات إلى فرص، وأن يحقق إنجازات ملموسة على الأرض، رغم شح الإمكانيات آنذاك. فقد نجح البرنامج في خفض معدلات الوفيات الناجمة عن سرطان الثدي بشكل ملحوظ، وزيادة نسبة الناجيات من خلال التشخيص المبكر، الذي تصل فيه نسبة الشفاء إلى أكثر من 95%. كما عمل على توسعة نطاق الخدمات ليشمل المناطق النائية والريفية، مؤكدًا على مبدأ العدالة في تقديم الخدمات الصحية للجميع.
لقد أصبح البرنامج الأردني لسرطان الثدي نموذجا يُحتذى به إقليميا في النهج التشاركي، حيث يجمع بين جهود القطاعين العام والخاص، والمؤسسات المدنية، والإعلام، والمتطوعين من "النشميات والنشامى" الذين يعملون دون كلل لتحقيق رسالة البرنامج. إنه نموذج للعمل الوطني المخلص الذي يعكس صورة الأردن في أبهى حلقات العطاء.
تطورت شعارات الحملة الوطنية على مدى أكثر من عقد ونيف، من "الكشف المبكر عن سرطان الثدي ينقذ حياتك" إلى "أوعديني تفحصي" و"شجعها تفحص"، وكل شعار كان يحمل في طياته رسالة نفسية واجتماعية معينة. اليوم، يأتي شعار "أنتِ الأساس... افحصي" ليعزز مفهوم تمكين المرأة ومسؤوليتها الذاتية تجاه صحتها، فهو خطاب مباشر إلى وعيها وإرادتها، يؤكد على دورها المحوري، وأنها عندما تحمي صحتها، فإنها تحمي أسرتها ومجتمعها بالتبعية.
ولا يغيب عنا أن نكرس في هذه الحملة التوعوية التذكير بأهمية فحص "الماموغرام" كأداة رئيسية للكشف المبكر، خاصة للنساء فوق سن الأربعين. فالصورة التي تظهرها هذه الأشعة قد تكون بالفعل "صورة للحياة"، كما جاء في إحدى الحملات السابقة، فهي التي تكشف المرض في بداياته، مما يسهل علاجه ويحافظ على جودة حياة المرأة.
مكافحة سرطان الثدي ليست مسؤولية القطاع الصحي وحده، بل هي مسؤولية جماعية تشارك فيها جميع مؤسسات الدولة والمجتمع. فالمدارس والجامعات عليها دور في تثقيف الطلاب والطالبات، والشركات والمؤسسات الخاصة والعامة عليها تشجيع موظفاتها على إجراء الفحص، ووسائل الإعلام عليها أن تكون شريكًا فاعلاً في نشر الوعي وتبديد المخاوف المرتبطة بالمرض والفحص.
كما أن دعم البرنامج الأردني لسرطان الثدي ماديًا ومعنويًا يعد من صميم المسؤولية الاجتماعية،فالتبرعات تساعد في تمكين النساء غير القادرات من الحصول على خدمات الفحص المجانية. وتبقى الأمنية التي نتمنى أن تتحقق قريبًا، بدعم من معالي وزير الصحة الدكتور ابراهيم البدور، وهي أن تصبح جميع فحوصات الكشف المبكر عن سرطان الثدي مجانية ومتاحة لكل امرأة أردنية، تحقيقًا للعدالة الصحية وتكريسًا لمبدأ أن صحة المرأة هي استثمار في رأس المال البشري للأردن.
ختامًا.. رسالة من القلب:سيدتي، يا من أنتِ أساس البيت والأسرة، أساس المجتمع والأمة، لا تسمحي للروتين أو الخوف أو الوهم بأن يكون حاجزا بينكِ وبين صحتكِ. المبادرَة إلى إجراء الفحص هي خطوة شجاعة تحفظ بها حياتكِ ومستقبل أسرتكِ. اجعلي ردكِ على سؤال "فحصتي؟" بنعم واثقة: "نعم، فحصت". وتذكري دائمًا أن الإصابة بسرطان الثدي -لا سمح الله- ليست نهاية المطاف، بل هي محطة يمكن مع الإرادة والوعي والدعم أن تكون بداية لرحلة شفاء تخرجين منها أكثر قوة وإيمانًا. وليصدق فينا قول الشاعر الجواهري:
ردّوا إلى اليأس ما لم يتسع طمعا .......... شرٌّ من الشرّ خوفٌ منه أن يقَعا
فحذارِ أن يصدّكِ الخوف عن الفحص، فخوفكِ من معرفة الحقيقة قد يكون أشد خطرًا من المرض نفسه إن اكتشف متأخرًا. معًا، في أكتوبر الوردي وغيره، لنكن سندًا لكل امرأة، ولنقل لها: أنتِ الأساس... فاحمِي نفسكِ، لأن في حمايتكِ حماية لنا جميعًا.


















