منى الغانم تكتب:"مهاراتٌ عالقةٌ بين دفء الذِّكريات وبرودة الورق !"

لا زلتُ أذكر ذلك اليوم جيدا..
كنتُ في المرحلة المتوسطة في نهاية الثمانينات الذهبية في دولة الكويت، عندما عدتُ من المدرسة وقد أعددتُ كعكةً صنعتُها في حصة التدبير المنزلي. لم تكن مجرد وصفة طعام آنذاك، بل مهارة حياتية طبّقتها بيدي، وتعلمتُ إلى جانب الوصفة، كيفية استخدام الميزان، وتنظيم مكونات ومقادير الوصفة، والعمل الجماعي التعاوني مع زميلاتي في مطبخ المدرسة تحت إشراف أبلة شهيناز.
كما لا زال عالقًا في ذهني ذلك اليوم الذي جريتُ للمنزل وبيدي حقيبة مزركشة وجميلة قمتُ بخياطتها بألوانها الجذابة بنفسي مستخدمة مجموعة من الخيوط والأدوات وأنواع الغُرَز في مادة الخياطة حين درَّبتنا أبلة نفيسة على مهارة خياطة حقيبة بأنفسنا والتي لا تزال تُرافقني حتى اليوم.
ناهيكم عن ذلك المشغل الكبير الذي كان يحتوي على جميع أنواع الفراشي والدهان والالواح وأوراق الجدران والتصاميم الداخلية المميزة في مادة النجارة والديكور، الى جانب التدريب على تمديد الاجراس والتوصيلات الكهربائية في مادة الكهرباء من قبَل مهندسات كفؤات.
حصص تطبيقية عملية في التدبير المنزلي الى الخياطة والتجارة والسكرتارية والنجارة والديكور والتصميم الداخلي والكهرباء والعناية بالأطفال مع توفر الادوات والمختبرات والمشاغل، الى جانب معلمات على قدر عالٍ من المهارة والحرفية في تدريب الفتيات.
لا زلتُ أحتفظ بتلك التجارب كأجمل لحظات تعليمي، لأنها كانت مفيدة وواقعية، وممتعة، وعميقة الأثر.
أين هذه المهارات الحياتية التي تفرز أمهات مؤهلات وكفؤات في إدارة المنزل في عصرنا الحالي ؟!
اليوم وفي وقت تتزايد فيه الحاجة إلى تنمية المهارات الحياتية لدى الفتيات، لا تزال مادة الاقتصاد المنزلي تُدرّس في كثير من المدارس بطريقة تقليدية تركز على الجانب النظري أكثر من الجانب العملي التطبيقي، مما يجعل الطالبات يحفظن معلومات لا يطبقنها، ويدرسن مهارات لا يمارسنها.
ورغم أن الاقتصاد المنزلي يُعد من أكثر المواد ارتباطًا بحياة الفتاة اليومية، إلا أن كثيرًا من المدارس تكتفي بشرح الدروس نظريًا في قاعات صفية، دون توفير بيئة تطبيقية حقيقية.
🔍 الأسباب وراء ضعف التطبيق العملي..
تتعدد الأسباب التي تُضعف الجانب العملي في تدريس الاقتصاد المنزلي، ومن أبرزها:
1. نقص الإمكانات المادية والتجهيزات والمشاغل وضعف الميزانية والدعم المالي وضعف البنية التحتية
كثير من المدارس لا تحتوي على مشاغل مجهزة أو أدوات بسيطة تُمكّن الطالبات من تجربة ما يتعلمنه بشكل عملي لعدم توفر الدعم المادي اللازم .
2. نقص التدريب والدعم المهني للمعلمات وعدم تقديم الدعم والتوجيه
غياب التدريب والتوجيه لتفعيل الجانب العملي من المادة يجعل المعلمات يركزن على إنهاء المنهاج نظريًا فقط.
3. محدودية الوقت وضغط الجدول الدراسي اليومي
الحصص غالبًا قصيرة وغير كافية لتدريب الفتيات او لتنفيذ أنشطة أو مشاريع تطبيقية ذات أثر .
4. العبء الأكاديمي والتركيز على الاختبارات والجانب النظري
التركيز على التقييم النظري يجعل الطالبات يحفظن المعلومات فقط استعدادًا للاختبار، دون فهم أو تجربة حقيقية.
5. نظرة المجتمع تجاه المادة
لا تزال بعض الجهات تنظر إلى الاقتصاد المنزلي على أنه مادة “ثانوية” أو “مادة للترفيه”، مما يُضعف من قيمتها والاهتمام بها .
6. اكتظاظ الطالبات داخل الغرف الصفية
الأعداد الكبيرة في الغرفة الصفية الواحدة تُصعّب تنفيذ أنشطة عملية جماعية أو فردية بشكل منظم وآمن مع عدم توفر المشاغل والتجهيزات.
رغم أهمية مادة الاقتصاد المنزلي في إعداد الطالبة للحياة الواقعية وتدريبها على المهارات الحياتية التي تلزمها في حياتها اليومية ، إلا أن العوائق الإدارية، والمالية، والتنظيمية، والتربوية تُعيق تحقيق أهدافها.
- [ ] النتيجة: مهارات مغيّبة رغم أهميتها…
في ظل هذا الوضع، تفقد المادة جوهرها الحقيقي، حيث يُفترض أن تُعد الطالبات لحياة واقعية تشمل:
- [ ] التخطيط المالي.
- [ ] إعداد الطعام الصحي.
- [ ] إدارة الوقت بفاعلية .
- [ ] النظافة والعناية الشخصية
- [ ] العناية بالأطفال والمنزل
- [ ] الخياطة واصلاح الملابس
- [ ] اختيار الاثاث والاهتمام بالتصاميم المنزلية
لكن دون ممارسة فعلية، تبقى هذه المهارات مجرد مفاهيم نظرية يصعب ترجمتها إلى سلوك يومي.
- [ ] دعوة لإعادة النظر…
إذا كنا نطمح إلى إعداد فتيات قادرات على إدارة المنزل والأسرة ومواجهة تحديات الحياة اليومية، فإننا بحاجة إلى إعادة النظر في طريقة تدريس مهارات الاقتصاد المنزلي، وتوفير بيئة تعليمية تتيح التجربة، والتطبيق، والممارسة الفعلية داخل المدرسة .
ليس الهدف أن تعرف الطالبة “مكونات الوجبة الصحية”، بل أن تتمكن من إعدادها بنفسها..
وليس الهدف أن تحفظ تعريف الميزانية، بل أن تدير مصروفها بذكاء..
وليس الهدف ان تعرف ماركات الملابس بل أن تصنع ملابسها وملابس أسرتها بنفسها.
وليس الهدف منحصر بالاسرة فقط بل بالمجتمع ككل، فهي تصبح قادرة على ادارة المشاريع الإنتاجية الصغيرة بنفسها من خلال المهارات التي تعلمتها في مادة التدبير والاقتصاد المنزلي.
* ولكي تستعيد هذه المادة بمهاراتها مكانتها، لا بد من دعم متكامل يشمل:
تطوير المناهج، وتحسين البيئة المدرسية والبنية التحتية ، وتقديم الدعم المادي اللازم ، وتدريب وتمكين المعلمات، وتغيير النظرة تجاه المادة واهميتها كمهارات أساسية في حياة كل فتاة مؤهلة لأن تكون أمًّا مسؤولة عن أسرة وأطفال ومجتمع في المستقبل.


















