ضرار البستنجي يكتب :- عندما يقلق الملك

صحيح أنها ليست المرة الأولى التي يتحدث فيها الملك عن تزايد المخاطر والتحديات، وعن اقتراب استحقاق المواجهة؛ لكن أن يختار الملك خطاب العرش ليخاطب الأردنيين بوضوح عن القلق والمصاعب فهذه محطة فارقة تستوجب من الجميع مقاربات مختلفة عنوانها المسؤوليات والمهام، وقبل كل شيء "المكاشفة"؛ العنوان المهم الغائب عن أولويات المسؤولين.
في لقائه مع رؤساء الوزراء السابقين أواخر الشهر الفائت تحدث الملك عن المخاطر وقال بوضوح "أن الأردن على استعداد تام كما هو دوماً، لحماية سيادته وأمنه". الخطر كبير إذاً، والمهام كثيرة، والمواجهة تستدعي استنفار الجهود، لكن ؛ وكما هي العادة لم يتفاعل أحد.
حين يتحدث الملوك لايغوصون في التفاصيل، يسلّطون الضوء على العناوين العريضة للسياسات والرؤى، ويحددون المسارات، وتضطلع السلطات المعنية والنخب ومؤسسات العمل السياسي والاجتماعي بالتفاصيل وبوضع الخطط وخلق الحوارات والنقاشات لتحقيق الأهداف وتنفيذ الرؤى في إطار القيم الأساسية المتجذرة للدولة.
حديث الملك عن القلق وإنْ جاء جواباً على سؤال المرحلة الذي يشغل بال الأردنيين؛ لم يأتِ لطمأنتهم فحسب، بل لمكاشفتهم وإشراكهم، ولتعليق جرس المسؤوليات والمهام، سيما وقد ذكّر بقدر الأردن التاريخي في مواجهة الأزمات والتحديات وتجاوزها، مؤكداً على سلاح الأردن الأقوى؛ الرهان على " شعبه المؤمن بالله ووطنه ووحدته؛ سند البلاد والعرش الذي لاتلين عزيمته".
لم يعد يصحّ أن تُقرأ خطابات الملك بذات العقلية السلبية المرتبكة، ولا أن يتم التفاعل الرسمي معها على قاعدة الشرح والتوصيف المباشر دون الخوض في التفاصيل والمهام والغوص فيما بين السطور للشروع في التنفيذ، فالأردنيون لايصعب عليهم فهم مايسمعون، وقد ملّوا منطق التنظير والتسحيج وغياب الأفعال، سيما والملك نفسه يشاطرهم القلق والتأكيد على ضرورة الإسراع في العمل الجاد المختلف، منقطع النظير، كما وصفه الملك، لاستكمال الإصلاحات والارتقاء بالخدمات ورفع مستوى المعيشة، مؤكداً في المجال الخدمي على العناوين الأهم؛ القطاع العام والتعليم والصحة والنقل.
توجيه الملك بضرورة متابعة مسيرة التحديث السياسي وتعزيز العمل الحزبي النيابي، كما رؤية التحديث الاقتصادي، مثّل جواباً على سؤال آخر ملحّ، حسم جدل الصالونات السياسية وإشاعاتها حول نوايا تجميد التحديث السياسي، أو تجميد الحياة الحزبية على وقع التحديات والمخاطر التي رأى فيها البعض ذريعةً للمطالبة بالانقلاب على إرادة الإصلاح السياسي الماضية نحو محطة الحكومات البرلمانية المنشودة.
في مقالنا السابق هنا على صفحات "بلكي نيوز" تحت عنوان "في المسكوت عنه حول الخطر على الأردن" نقلنا بأمانة قلق الناس، وانتقدنا صمت الساسة والمسؤولين وغياب المهام عن جدول أعمالهم، ونصحنا بانتهاج المكاشفة وإعادة الاعتبار لكون الشعب هو السلاح والعامل الحاسم في الدفاع عن البلاد وعرشها، سيما وأن الأردني مستعد لمزيدٍ من التضحية حين تكون في إطار المشروع الوطني الذي يطلق التغيير الحقيقي، ويشرك الجميع في رسم مستقبل البلاد وإن استدعى تقديم الجميع تنازلات في سبيل الوطن. واليوم ينتصر الملك مجدداً للأردنيين، فيؤكد على قيمتهم ودورهم، وهم الذين لطالما عانوا من سياسات الحكومات المتعاقبة التي غيّبتهم عن دوائر الفعل والرأي، وقزّمت مؤسسات العمل السياسي والاجتماعي والأحزاب، وأضعفت روح المبادرة والمشاركة وقصّرت في ضبط الفوضى في مفاهيم الولاء والانتماء وفي إعلاء قيمة المهام وتلبية متطلبات الحياة الكريمة التي تليق بهم.
عنوان آخر متداول لم يغفله خطاب العرش؛ الحديث والشائعات حول تغييرات عميقة مفترضة على مستوى الحكم ودوائر القرار: الشخوص وآليات العمل، الحكومة والأجهزة الأمنية ومؤسسة ولي العهد. الملك لم يقُل صراحةً ان ثمة تغييرات عميقة قادمة على هذه المستويات، لكن الأكيد أن مابعد إعلان "قلق الملك" لن يكون كما قبله، وأن تقديم الأمير الحسين كعنوانٍ لجند الوطن، الشباب الأحرار، وفي سياق الحديث عن "إرث العزة والكرامة" ودور الجيش العربي في حماية الوطن، في ضوء تعاظم الأحداث واشتدادها رسالةٌ ملكية جليّة، عنوانها أن ولي العهد سيمضي في حمل راية المواجهة وفي البناء وتجاوز حقول الألغام.
إن المعادلة العميقة التي عبّر عنها خطاب العرش بالتأشير على الثنائية الذهبية؛ العرش والشعب، في مواجهة القادم يصح قراءتها كفرصة أخيرة قبل التغيير الكبير القادم، فحين يعلن رأس الدولة قرار الأردن بالمواجهة، ويعلّق جرس المكاشفة واستئناف المهام دون تراخٍ، فعلى الجميع البدء فوراً في إطلاق ورشة عمل وطنية حقيقية، عنوانها التغيير والحوار واقتراب المسؤولين من هموم الناس واحتياجاتهم، والتفكير خارج الصندوق، وتحييد الخلافات وصراعات النفوذ التي لطالما نشبت على عتبات كل تغيير كبير.
يدرك الأردنيون أن القادم خطير، وأن الجميع مطالبٌ بالتضحية واستعادة المبادرة، وأن الوقت قد حان لإعادة ضبط المفاهيم والأفعال لمغادرة مقعد المتفرّج ونبذ منطق الخلاص الفردي والمضي نحو عوالم المهام والمسؤوليات ضمن محدّدات المشروع الوطني الحقيقي المرتكز على المعرفة والانتماء ووحدة الصف وامتلاك أدوات الكفاية وتمتين الذات، فالقادم لن يرحم المتخاذلين، والمواجهة تحتّم تغييراً عميقاً يلفظ كل مقصّر ومتخاذل مهما علا شأنه، تماماً كما تحتاج استفاقة شعبية عاجلة قبل فوات الأوان.


















