+
أأ
-

أ. د. ليث كمال نصراوين : اهتمام ملكي متجدد بالقضاء

{title}
بلكي الإخباري

وجه جلالة الملك عبدالله الثاني خلال زيارته الأخيرة إلى المجلس القضائي بتشكيل لجنة متخصصة لتطوير القضاء، في خطوة ملكية تعكس إيمانه العميق بأن استقلال القضاء هو الأساس الذي تقوم عليه الدولة الحديثة وضمانة حقيقية لسيادة القانون. وتشير هذه المبادرة إلى المكانة المركزية للسلطة القضائية في مسار التحديث الوطني، وإلى استمرار النهج الإصلاحي الذي أطلقته اللجنة الملكية لتطوير الجهاز القضائي وتعزيز سيادة القانون عام 2017، ترسيخا لمنظومة قضائية متقدمة تواكب تطور الدولة الأردنية ومتطلباتها الدستورية.

وتكتسب اللجنة الجديدة أهميتها من كونها تأتي في السنوات الأولى من المئوية الثانية للدولة الأردنية، وهي مرحلة تحمل فرصة تاريخية لمراجعة منظومة العدالة وتطوير أدواتها بما يواكب متطلبات العصر. فهي ليست مجرد لجنة فنية لتحديث الإجراءات، بل تعبير عن رؤية ملكية تؤمن بأن تجديد الدولة لا يتحقق إلا من خلال تطوير قضائها وترسيخ العدالة كقيمة وطنية ثابتة لا تقبل المساومة.

وليس هذا الاهتمام الملكي بالقضاء أمرا عابرا أو طارئا، بل يستند إلى أساس دستوري واضح؛ إذ أقام المشرع الدستوري صلة وثيقة بين الملك والسلطة القضائية، فجعل الأحكام تصدر باسمه، في حين يظل القضاة مستقلين لا سلطان عليهم في قضائهم سوى القانون. ومن ثمّ فإن دعم جلالته لمنظومة القضاء يمثل تجسيدا لوظيفة دستورية أصيلة تحفظ هيبة الدولة، وتعزز ثقة المواطنين بمؤسساتها، وتؤكد أن العدل الصادر باسم الملك هو التعبير الأسمى عن سيادة القانون في الدولة الأردنية.

ويكتسب الحديث عن تطوير الجهاز القضائي أهمية دستورية وسياسية خاصة، إذ إن استقلال السلطة القضائية لا يمثل امتيازا لمؤسسة من مؤسسات الدولة، بل يشكل ضمانة أساسية تحول دون تغوّل السلطة التنفيذية أو تحولها إلى سلطة مطلقة، من خلال ما يمارسه القضاء من رقابة على قراراتها النهائية والفصل في الطعون المقدمة ضدها.

كما أن القضاء المستقل يعد ركيزة محورية في النظام النيابي، لما يضطلع به من دور في مراقبة الأعمال الصادرة عن أعضاء السلطة التشريعية وفقًا لأحكام القانون. وبهذا المعنى، يتكامل القضاء مع السلطتين التشريعية والتنفيذية ليبقى ميزانا يضبط الأداء العام، ويصون الحقوق والحريات، ويحافظ على التوازن الدقيق بين السلطات.

لقد شهدت الدولة الأردنية خلال السنوات الماضية سلسلة من الإصلاحات التشريعية المتصلة بالقضاء، حيث خضعت القوانين الإجرائية لمراجعات جوهرية شملت آليات الطعن في الأحكام، والتوسع في استخدام التقنيات الحديثة ضمن مجريات التقاضي، وتحديث إجراءات تنفيذ الأحكام النهائية بما ينسجم مع متطلبات العدالة الناجزة.

ومع أن هذه الخطوات تمثل إنجازا مؤسسيا مهما، إلا أنها جاءت، في معظمها، منفصلة عن إطار شامل يحدد فلسفة التقاضي في الأردن واتجاهاته المستقبلية. ولأن الإصلاح الجزئي لا يتحول إلى مسار مستدام ما لم يستند إلى رؤية مؤسسية واضحة ومتكاملة، بدا التطوير القانوني في بعض الأحيان أقرب إلى معالجة موضعية منه إلى مشروع وطني شامل لتحديث منظومة العدالة وتعزيز كفاءتها وتيسير سبل الوصول إليها لجميع المواطنين.

وعلى هذا القياس، يبرز مثال العقوبات البديلة بوصفها نقلة نوعية في الفكر الجزائي الحديث، غير أنها أُقرت خارج إطار رؤية مؤسسية متكاملة تراعي أثرها على منظومة العدالة الجنائية برمتها، وعلى بنية المحاكم وأساليب عمل القضاة وآليات تنفيذ الأحكام. ومن ثمّ، فإن استكمال تطبيقها يبقى مشروطا بوضع تصور شامل يضمن اتساق النص مع الممارسة، وتحقيق التوازن بين الردع والإصلاح، حتى لا تتعارض غايات السياسة الجزائية مع متطلبات العدالة الناجزة، ولا تفقد العقوبة معناها الإصلاحي وبعدها الإنساني.

وفي السياق ذاته، قامت الحكومة الحالية بسحب مشروع قانون الوساطة لتسوية المنازعات المدنية الذي كانت قد أقرّته وزارة سابقة، في خطوة تعكس الحاجة إلى إعادة النظر في المنظومة القضائية برمتها قبل إقرار أي تشريع جزئي جديد. ويأتي هذا السحب تمهيدا لوضع تشريعات مستقبلية – ومن ضمنها الوساطة – ضمن رؤية شاملة تضمن انسجامها مع مبدأ الوصول إلى العدالة ومتطلبات التحديث المؤسسي للدولة.

كما يرتبط تطوير القضاء ارتباطا وثيقا بمسار التحديث الشامل الذي يدعو إليه جلالة الملك، إذ إن الإصلاح السياسي الذي أعاد تنظيم الحياة الحزبية يحتاج إلى قضاء نزيه ومستقل يحمي الحقوق السياسية ويصون نزاهة الانتخابات وشفافية العملية الديمقراطية. أما الإصلاح الإداري الذي يستهدف تعزيز الكفاءة وترسيخ مبادئ الحوكمة، فيتطلب رقابة قضائية فاعلة تحول دون التجاوز وتكافح الفساد. وفي المجال الاقتصادي، فإن الإصلاح الرامي إلى جذب الاستثمار وتحفيز النمو لا يكتمل دون قضاء متخصص وسريع وموثوق يضمن الأمن القانوني ويعزز الثقة في إنفاذ العقود وحماية الملكية.

ومن هذا المنطلق، لا يمكن النظر إلى الزيارة الملكية الأخيرة للمجلس القضائي بوصفها مناسبة بروتوكولية عابرة، بل باعتبارها محطة مفصلية تؤذن بمرحلة جديدة من الإصلاح المؤسسي العميق. فالدولة التي تمتلك الشجاعة لمراجعة أدواتها وتطوير مؤسساتها هي الأقدر على صون هيبتها وبناء مستقبلها بثقة واستقرار. ومع تشكيل اللجنة الجديدة التي وجّه بها جلالة الملك، تتجدد رسالة الدولة بأن القضاء هو حجر الأساس في مشروع التحديث الوطني الشامل، وحارس التوازن بين السلطات، ومقياس قوتها في إنفاذ القانون بعدل وإنصاف.

 

* أستاذ القانون الدستوري في الجامعة الأردنية