ربى عياش تكتب :- كيف كشف بوريس جونسون عن وجه النظام العالمي

في مقابلة بودكاست “الصندوق الأسود” مع بوريس جونسون، بدا كلام رئيس الوزراء البريطاني السابق تجسيدًا للنخبة السياسية التي تتعامل مع الإنسان كـ”لا شيء”، وتتعامل مع الدول كفأر تجارب، لا ككيانات تستحق الاحترام.
بدا جونسون بكلامه ووصفه لأحداث كثيرة تجسيدًا للنظام العالمي الجديد الذي يرى العالم مجرد خريطة مصالح. رؤية محدودة تعتمد على مبدأ البقاء للأصلح، للأقوى، للأدهى.. بلا أي اعتبار للتعاطف أو المنطق أو العدالة، وكأن الأمور لا تتطلب رؤية إنسانية أو حقوقية أو إيمانية.
ما قاله جونسون بالحرف هو الآتي: “في عام 2003 غزونا العراق، نحن وأميركا، وتم تدمير كل المؤسسات المدنية. أزلنا حزب البعث والنخب الحاكمة كلها، ونهبت منازلهم وسُرقت ممتلكاتهم حتى علب السيجار. ولم تكن لدينا أي خطة في من سيخلف صدام حسين أو لحماية الأقليات، لم يكن لدينا أي خطة. لقد غزونا دولة مستقلة ذات سيادة”.
وحين تحدث عن العراق، قال: لقد أخطأنا في قرار غزو العراق، ولم يكن لدى الدول المشاركة أدنى فكرة عن البديل أو كيفية السيطرة على الفوضى. دمرنا المؤسسات المدنية ولم نعلم كيف يكون البناء، وكأنه يتحدث عن رحلة عفوية مع أصدقائه، لا يعلمون وجهتها مسبقًا، مجرد محاولة لمعرفة جريان النهر إلى أين سيقودهم.
كما تحدث عن المتحف العراقي، عن سرقة ونهب الآثار السومرية والآشورية، وعن فوضى العراق، واصفًا كل ذلك بأنه “خطأ”. لكن ما حدث لم يكن مجرد خطأ، بل خطيئة مكتملة الأركان. لقد نُفّذ المطلوب، فهكذا يتم تدمير دول الشرق الأوسط أو أي دولة في العالم.. نموذج استعماري ممتاز لإضعاف الكيانات وإرهاقها وتوجيه ضربات مميتة لها بحيث يصعب لها النهوض من جديد. ما حدث في العراق هو تكرار لنمط متقن من الهدم باسم البناء، ومن التحرير الذي يُنتج العبودية. لأن تحالف الدول على استبدال أنظمة بسلالة أمر ممكن، وأن يتم نفي أطراف في هذا النظام العالمي وسحب اعتمادهم منه أمر وارد أيضًا، لكن كان يجب أن يتم بالتوازي مع الحفاظ على الدولة.
الفكرة أن في التاريخ الحديث، لم تكن المآسي الكبرى وليدة لحظة، بل نتائج تصميم بارد يختبئ خلف شعارات أخلاقية. كما فعلت بريطانيا في الهند حين زرعت خطوطًا طائفية بين الهندوس والمسلمين لتضمن بقاء الجرح مفتوحًا بعد رحيلها، وكما فعلت القوى الاستعمارية في إفريقيا حين رسمت حدود الدول بالمسطرة لا بالذاكرة، فحوّلت القبائل إلى دول، والأشقاء إلى أعداء.
العراق لم يكن استثناء، بل استمرار لسياسة عريقة في إعادة تشكيل الهويات، وتعريف الوطن والوطنية والانتماء، وإضعاف الشعوب عبر محو ذاكرتها الجماعية.
وجوهر اهتمامنا ونقاشنا هو المجتمع.. حماية الدولة بمؤسساتها وإداراتها وحقوق أهاليها، لا عن أنظمة سابقة أو لاحقة. إن التخلي عن الأهالي ومكونات البلاد، من الأغلبية إلى الأقليات، لا علاقة له بإسقاط نظام. والسماح ببث الفوضى لم يكن له علاقة باستبدال نظام. ومحو ذاكرة الحضارة والشعوب ليس عملًا عشوائيًا يتم بالصدفة، بل هو أخطر أدوات السيطرة. فحين تُسرق آثار سومر وآشور وبابل، لا يُنهب حجر فحسب، بل يُنتزع من الوعي الإنساني دليل على أن الشرق كان يومًا أصل الفكر والعلم والإيمان. وحين يُنهب المتحف العراقي، يُمحى سجلّ الإنسان الأول الذي كتب الحرف الأول، وكأن من كتب التاريخ يحاول اليوم محو مقدمته.
لقد أدركت القوى الكبرى أن السلاح لا يكفي لإخضاع الأمم، وأن تدمير الجيوش لا يُسقط الشعوب، لكن محو الذاكرة هو الذي يضمن تبعية الأجيال القادمة.
فالذاكرة الجمعية هي ما يصنع الانتماء، وحين تُقطع خيوط الذاكرة، يصبح الوطن فكرة ضبابية، والتاريخ قصة بلا شاهد، والمستقبل متاحًا لمن يكتبه من جديد.
وهنا تتجلّى الخطيئة الكبرى، ليس في الغزو ذاته، بل في ادعاء البراءة بعده. حين يُسمّى التدمير “خطأ”، تتحول الكارثة إلى حدث قابل للنسيان، ويُغسل الضمير العالمي من الدماء بحجة “سوء التقدير”.
قبل عشرين عامًا، كان الهدف من غزو العراق تدمير الدولة بالكامل: إداريًا، وسياسيًا، واقتصاديًا، واجتماعيًا. لم يكن المقصد تحطيم نظام أو استبداله، بل تحطيم الدولة، وتفكيك المؤسسات، ليصبح هناك فراغ مهول تُسقط من خلاله الفوضى كـ”مظلة لعنة إلهية”، لتدخل البلاد جحيمًا لا مخرج منه. وفعلاً، الدولة العراقية لم تخرج منه. كل ما حدث أدى إلى تهجير الشباب والكفاءات، ونشأت بيئة خصبة لبروز الجماعات المتطرفة، مثل داعش. الجيش العراقي تم استنزافه وضربه في مفاصل موجعة، والدعم الغربي انسحب بالكامل، تاركًا البلاد عارية أمام البطالة والفقر، والفوضى، وانعدام الأمن، والميليشيات.
الذاكرة الجمعية هي ما يصنع الانتماء، وحين تُقطع خيوط الذاكرة، يصبح الوطن فكرة ضبابية، والتاريخ قصة بلا شاهد، والمستقبل متاحًا لمن يكتبه من جديد
وسُرقت مقدرات البلاد وآثارها إلى حد الشبع. والاستعمار لا يشبع! والأهم، سُمح لإيران بملء الفراغ وتعزيز وجودها بأذرعها في البلاد، من العراق إلى سوريا، إلى لبنان، وصولًا إلى فلسطين. إيران كبرت وتمددت لتصبح الحجة الأكبر بعد 7 أكتوبر لتدمير المنطقة عن بكرة أبيها وتشويهها وتوجيه ضربات نوعية أقوى لها… ليس لإيران وحدها، بل لأهالي المنطقة.
المنطقة كاملة أضحت بأيدي بريطانيا، وأميركا، وإسرائيل، ودول متحالفة طبعًا.. بغازها ومياهها ومواردها وحدودها، وقراراتها الأمنية وسيادتها واقتصادها. أما حاضر ومستقبل أهاليها، فيتبدد. العراق الذي كان منارة علم يومًا، الذي كان مهد الحضارات، مهد نبوءاتهم وإيمانهم… العراق الذي انطلق منه كل ما يؤمن به اليوم الغرب والشرق، الذي علّم العالم الإنسان الكتابة، ويملك من الآثار والتاريخ ما كان بداية السرديات المنتشرة، وبداية الحقيقة والوهم… يملك العراق في باطنه ما يمكن أن ينقض ويشوّه سرديات أطراف كُثر، دينية وعقائدية وإيمانية، ويمحوها عن بكرة أبيها. ولكن ماذا فعلوا؟ لقد نجحوا في تحويله إلى ضحية بخطط ميكيافلية لا تملك أي اعتبار للقيم الإنسانية أو الثقافية. وطن علّم العالم الكتابة، وحوى الآثار التي تشهد على تاريخ البشرية، عقلها، فضولها، جوهرها، روحها.. يُختزل اليوم ماضيه وحاضره إلى مجرد “خطأ” في عيون من قرر تدميره وتشويهه.
كل ما حدث لم يكن عبثيًا ولا عشوائيًا. هذا النظام، الذي رُسّخت مبادئه وقواعده منذ قرن على أقل تقدير، لا يتصرف بعشوائية، إنما بغوغائية منظمة. والمقصد من الفوضى أن تنتشر، ومن الدمار أن يستمر، وبثّ الرعب في كل مكون، واستغلال الموزاييك العرقي ليصبح لعنة. وعدم حماية الأقليات ما هو إلا لترسيخ مجازر وكراهية في جوهر المكونات لبعضها… كراهية ونفور يستمران لأجيال، ولا يمكن محوهما بسهولة أو اجتثاثهما لاحقًا.
لم يكن غزو العراق مجرد فصل في كتاب الاستعمار، بل كان اختبارًا لإنسانيتنا جمعاء.. اختبارًا فشل فيه العالم، وتجلى فشله بشكل واضح كالشمس اليوم، بعد عشرين عامًا، متجسدًا في كل ما نشهده في العامين الأخيرين في هذا الشرق المأزوم. فمن رحم ذلك الخراب، خراب المجتمع والدولة، وُلدت الفوضى التي نعيشها اليوم في مشهد شرق أوسطي يبتلعنا جميعًا إلى حيث العدم.


















