د. رانيا سامي بدر : الأسرة والقيم المجتمعية: بين ضغوط العولمة وتحديات العصر الرقمي

تشهد المجتمعات العربية في السنوات الأخيرة تحولات اجتماعية عميقة فرضتها العولمة وتسارع التطور التكنولوجي، ما انعكس بصورة مباشرة على شكل الأسرة ووظائفها والقيم التي تحفظ تماسكها. وبين متطلبات الحياة الحديثة، وسرعة التغيير، وضغوط الواقع الاقتصادي والاجتماعي، أصبحت الأسرة في مواجهة مفتوحة مع تحديات جديدة لم تكن مطروحة بالحدة نفسها قبل عقدين فقط.
أما العولمة فقد أدت إلى انفتاح غير مسبوق على ثقافات متعددة ومتباينة، ما جعل الأفراد، خصوصاً الشباب، يتلقون قيمًا وأنماطًا سلوكية قد تختلف جذريًا عن الموروث الاجتماعي. وقد ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في تعزيز هذا الانفتاح، لكنها في الوقت ذاته أضعفت مفهوم الخصوصية الأسرية، وقلّلت من حجم التفاعل الحقيقي بين أفراد العائلة.
ففي كثير من البيوت، باتت الأجهزة الذكية شريكًا يوميًا في كل لحظة، تحلّ محل الحوار المباشر، وتخلق بيئة تقلّ فيها فرص التفاهم والتقارب. ومع توسّع الفجوة الرقمية بين الأجيال، يجد الآباء صعوبة في مواكبة اهتمامات الأبناء وطريقة تفكيرهم، ما يجعل التواصل داخل الأسرة أكثر هشاشة من أي وقت مضى.
على الجانب الآخر، تزداد معدلات الطلاق في عدد من الدول العربية بوتيرة لافتة، وهو مؤشر يكشف عن تغيّر في نظرة المجتمع للزواج، وتراجع في قدرة الأزواج على الصمود أمام الضغوط اليومية. فالتحديات الاقتصادية، وضعف مهارات التواصل، وتضارب التوقعات بين الزوجين، جميعها عوامل تتداخل لتخلق بيئة أقل ثباتًا للحياة الزوجية. كما أن بعض الأزواج، خصوصًا الشباب، يدخلون الحياة الزوجية دون استعداد كافٍ للتعامل مع الخلافات، ودون مهارات إدارة النزاع أو الوعي الكافي بأهمية التنازلات المشتركة. ومع غياب الدعم الاجتماعي وانشغال الجميع بإيقاع الحياة السريع، يصبح الطلاق في كثير من الأحيان خيارًا أسهل من محاولة الإصلاح.
تتسع الفجوة بين الأجيال نتيجة اختلاف مصادر المعرفة وأنماط العيش. فالأبناء يعيشون عالمًا سريعًا ومفتوحًا يقوده الإنترنت، بينما يتمسك الآباء بقيم أكثر ثباتًا وتدرجًا. هذا التباين يخلق نوعًا من سوء الفهم المتبادل، ويحدّ من القدرة على بناء جسور حوار فعّال. ويحذّر خبراء الاجتماع من أن استمرار هذه الفجوة قد يؤدي إلى تراجع الترابط العائلي وفقدان نقل الخبرات والقيم التي تميّز المجتمع. الأمر الذي يستدعي مبادرات مجتمعية تُعزّز التواصل بين الأجيال، سواء عبر برامج تثقيفية أو منصات حوار مشتركة.
خلاصة القول: إن التحديات التي تواجه الأسرة العربية اليوم ليست مجرد ظواهر اجتماعية عابرة، بل تحولات بنيوية تتطلب وعيًا، وتعاونًا، وسياسات داعمة للحفاظ على تماسك الأسرة باعتبارها الخلية الأساسية للمجتمع. وبين تأثيرات العولمة ووسائل التواصل، وارتفاع معدلات الطلاق، واتساع فجوة الأجيال، يبقى الاستثمار في بناء وعي مجتمعي وصياغة قيم حديثة تحاكي الواقع وتحافظ على الأصالة هو الطريق الأمثل نحو مجتمع متماسك ومستقبل أكثر استقرارًا


















