أ. د. ليث كمال نصراوين : السردية الأردنية بين الذاكرة الوطنية والنصوص الدستورية (1/2)

أبدى سمو الأمير الحسين، ولي العهد، خلال زيارته الأخيرة لمحافظة الطفيلة، رغبته الشخصية في توثيق السردية الأردنية؛ ذلك المسار التاريخي والسياسي والاجتماعي الذي نشأت من خلاله الدولة الأردنية، بما يحمله من ذاكرة جمعية وتجارب وطنية ساهمت في تأسيس الدولة وبناء مؤسساتها وترسيخ هويتها. فهذا التصور الشامل لمسار الدولة لا يقتصر على مجرد سرد أحداث قديمة متتابعة وربطها بأشخاص وأزمنة مختلفة، بل يمتد ليقدم رؤية متكاملة لمسيرة الأردن في سياق واحد متصل، بحيث تتحول هذه الذاكرة المشتركة إلى عنصر من الوعي العام وإلى مدخل أساسي لفهم النصوص الدستورية، ولا سيما تلك التي تُعرّف الدولة وتحدد هويتها العربية والإسلامية.
فالدستور الوطني لا يولد في فراغ، ولا يُصاغ خارج سياقه التاريخي الذي مهّد لظهوره؛ فالنصوص الدستورية، مهما بلغت دقتها الفنية، تظل بحاجة إلى قراءة خلفياتها وظروفها لفهم المقاصد التي أرادها المشرّع الدستوري. ومن هنا تصبح عملية توثيق السردية الأردنية جزءاً مكملاً للبناء الدستوري ذاته، إذ تضفي على الأحكام المتعلقة بشكل الدولة ونظام الحكم فيها بُعداً زمنياً يربط بين النص والوقائع التي سبقته وأسهمت في صياغة معانيه.
ويتضح الترابط بين السردية التاريخية الأردنية والنصوص الدستورية بصورة جلية عند الوقوف على المادة الأولى من الدستور، التي تقرر أن المملكة الأردنية الهاشمية دولة مستقلة ذات سيادة، وأن نظام الحكم فيها نيابي ملكي وراثي. فهذا النص لا يقتصر على كونه توصيفاً قانونياً لشكل الحكم، بل يمثّل خلاصة لمسار تاريخي بدأ مع الثورة العربية الكبرى، التي أرست دعائم الشرعية الهاشمية القائمة على مبادئ التحرر والوحدة والنهضة العربية. ومن سياق هذه الثورة جاء الملك المؤسس عبد الله الأول إلى شرق الأردن، حيث بايعه أبناء البلاد، لتشكّل تلك البيعة الأساس الأول لقيام النظام الملكي الوراثي في الدولة الناشئة.
ومع تطور التجربة السياسية الأردنية، أخذت المشاركة الشعبية في الاتساع، ليغدو النظام النيابي الامتداد الدستوري الطبيعي للشرعية التاريخية التي تأسست عليها الدولة. فقد تقرر للأردنيين حق المشاركة في إدارة الشؤون العامة عبر ممثليهم المنتخبين، في إطار الديمقراطية النيابية التمثيلية. ومن هذا المنظور، تكشف المادة الأولى من الدستور عن عمق السردية الأردنية في بنيتها؛ فهي توحّد بين مخرجات الثورة العربية الكبرى، وشرعية النظام الملكي، والأساس النيابي القائم على تمثيل الأمة، ضمن بناء واحد تتكامل فيه العناصر التاريخية والدستورية ولا يمكن فصلها عن سياقها الذي نشأت فيه.
وتزداد أهمية المادة الأولى وارتباطها بالسياق التاريخي الأردني عندما نستحضر الحكم الدستوري الذي يقضي بأن الشعب الأردني جزء من الأمة العربية. فالمطلوب أن تؤكد السردية الوطنية أن الدولة الأردنية قد نشأت في قلب المشروع العربي، وأن ارتباطها بمحيطها لم يكن مجرد انتماء لغوي أو ثقافي، بل تجسّد في احترام القرارات العربية الجماعية، وفي مقدمتها قرارات القمم العربية التي اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، فجاء القرار الأردني بفك الارتباط القانوني والإداري مع الضفة الغربية انسجاماً مع هذا التوجه الجماعي.
ويستكمل الدستور بناء السردية الهويّاتية للدولة الأردنية من خلال المادة الثانية التي تنص على أن الإسلام دين الدولة وأن العربية لغتها الرسمية. فهذا النص لا يكتفي بتقرير هوية شكلية، بل يرسّخ المرجعيتين الدينية واللغوية اللتين شكّلتا عبر التاريخ إطاراً ناظماً لحياة الأردنيين ومؤسسات دولتهم.
ويكشف التتبع التاريخي لمسيرة الدولة الأردنية أن الإسلام كان، منذ نشأتها، مظلة جامعة تحمي السلم المجتمعي وتصون حقوق جميع مكوّنات الشعب، وتكفل حرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية. كما شكّل هذا الإطار الديني أساس الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، وهي وصاية متجذرة تحولت مع الزمن إلى أحد مرتكزات الهوية الوطنية كما عبّر عنها الدستور. ومن ثمّ، فإن القول بأن الإسلام دين الدولة ليس حكماً نظرياً أو شعاراً عاماً، بل جزء من سردية تاريخية ممتدة تتجسد في الدور الهاشمي في القدس وفي التضحيات التي قدّمتها الدولة دفاعاً عن رسالتها العربية والإسلامية.
وأما العربية، بوصفها اللغة الرسمية، فلا تقتصر على كونها وسيلة تواصل، بل هي الوعاء الذي حُفظت فيه الذاكرة الجماعية للأردنيين وصيغت به النصوص الدستورية والقوانين الوضعية. فاللغة عنصر جوهري في السردية الأردنية، لأنها الأداة التي نُقلت بها التجربة الوطنية عبر الزمن، ولأنها جزء من هوية الدولة التي يعكسها الدستور ويحميها.
وعند الجمع بين المادتين الأولى والثانية من الدستور، تتبدى السردية الأردنية بوصفها الإطار الضروري لفهم الأحكام التأسيسية التي قدّمت الدولة من خلالها صورتها وهويتها، وصولاً إلى ما حققته من تراكم وإنجاز في مئويتها الثانية. فالدولة الأردنية – كما يعرضها الدستور – لم تكن طارئة ولا وليدة مصادفة تاريخية، بل نتاج مسار متدرج تشكّل عبر الثورة العربية الكبرى، والانتماء العربي، والمرجعية الإسلامية، واللغة العربية، وهي عناصر تتكامل لتصوغ ملامح دولة عربية إسلامية ذات سيادة، تقوم على نظام نيابي ملكي وراثي، وشعب يُعرّف عن نفسه بأنه جزء من أمته العربية.
* أستاذ القانون الدستوري في الجامعة الأردنية


















