د. محمد رسول الطراونة : الطب من لغة الخواجا الى لغة القران الكريم

تلقيت مؤخراً دعوة كريمة من معالي الأستاذ الدكتور زهير السباعي من المملكة العربية السعودية الشقيقة للمشاركة في ندوة حوارية حول تعريب التعليم الطبي وقد أثارت هذة الدعوة في نفسي الحماس لإعادة إحياء قضية تعريب التعليم الطبي، وهي قضية ليست جديدة ولكنها تحمل في طياتها مستقبل الأمة الطبي والعلمي. في ظل التحديات الصحية المتزايدة التي تواجه عالمنا العربي، أصبح من الضروري أن نعيد النظر في لغة تعليمنا الطبي، ليس كرفض للغات الأخرى، ولكن كإثراء لهويتنا وتعزيز لفعاليتنا العلمية. في عالم يموج بالتحديات الصحية والمعرفية، تبرز قضية تعليم الطب باللغة العربية كقضية مصيرية تتعلق بالهوية، والفعالية العلمية، والاستقلال الثقافي. إنها ليست مجرد نقاش أكاديمي، بل هي مشروع تنموي وحضاري يلامس صميم وجود أمتنا العربية التي يتجاوز عدد سكانها 470 مليون نسمة، فلا توجد مفارقة أكبر من أن نرى دولاً صغيرة مثل فنلندا والسويد والدنمارك وهولندا تُدرِّس الطب بلغاتها المحلية، بينما تظل جامعاتنا العربية أسيرة للغات أجنبية في تخصص حيوي مثل الطب، هذه الدول لم تهمل تعلم اللغات الأجنبية، بل جعلتها شرطاً مكملاً وليس بديلاً للغة الأم. لقد أدركت هذه البلدان أن تعلم الطب باللغة القومية يضمن: استيعاباً أعمق، حيث يتفاعل الطالب مع المعلومة بلغته الأم، فتقل الفجوة بين المصطلح والمفهوم و ممارسة أكثر كفاءة حيث يصبح التواصل بين الطبيب والمريض باللغة العربية أكثر دقة ووضوحاً، مما ينعكس إيجاباً على جودة الرعاية الصحية وتقليل الأخطاء الطبية بالاضافة الى إنتاجً اغزر للمعرفة، عندما تكون لغة التعليم والتطبيق هي العربية، يصبح البحث العلمي والإضافة إلى المكتبة الطبية بالعربية أمراً طبيعياً، بدلاً من حالة الاستهلاك الدائم للمعرفة المنتجة بلغات أخرى.
على الرغم من التحديات، شهدت الساحة العربية محاولات جديرة بالاحترام في مجال تعريب الطب منها تجربة سوريا التاريخية فقد كانت كلية الطب في جامعة دمشق رائدة في تعريب التعليم الطبي منذ عقود، حيث درِسَت معظم المواد باللغة العربية، وأُنتجت كتب ومراجع عربية أصبحت مصدراً مهماً للعديد من الأطباء. اما في الاردن فقد اخبرني أحد الزملاء أن هناك تجربة متواضعة في جامعة اليرموك، حيث سارت كلية الطب هناك على هذا النهج، استخدام اللغة العربية في التدريس مع الحفاظ على تعليم المصطلحات الطبية بالإنجليزية، في نموذج هجين يحاول التوفيق بين الأصالة والمعاصرة.كما بذلت مجامع اللغة العربية في القاهرة ودمشق وغيرها جهوداً كبيرة في تعريب وتوحيد آلاف المصطلحات الطبية، مما وفر قاعدة لغوية صلبة يمكن البناء عليها. هذه التجارب، وإن واجهت بعض الصعوبات مثل نقص المراجع الشاملة وضغوط العولمة العلمية، تثبت أن الأمر ممكن، وأن العائق ليس قدرة اللغة العربية – التي هي من أثرى لغات العالم – بل غياب الإرادة السياسية والأكاديمية الموحدة.
استجابة لدعوة الدكتور السباعي، أرى أن الطريق إلى تحقيق هذا الحلم يبدأ بخطوات عملية: لعل أولها تشكيل مجموعة قيادية تضم خبراء في الطب والتعليم واللغة العربية، مهمتها وضع الإطار الاستراتيجي والخطة التنفيذية. ومن ثم عقد مؤتمر تأسيسي قد يكون بالشراكة مع منظمة الصحة العالمية وجامعة الدول العربية والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو)، لجمع كل الأطراف المعنية وصياغة وثيقة عمل واضحةويتطلب الامر كذلك تطوير المناهج والمراجع من خلال تشكيل لجان متخصصة لتعريب أفضل الكتب الطبية العالمية، وإنتاج محتوى عربي أصيل (كتب إلكترونية، فيديوهات تعليمية، منصات إلكترونية). ولا بد من برامج تدريبية للمعلمين لتمكين أعضاء هيئة التدريس من مهارات التدريس باللغة العربية باستخدام المصطلحات العلمية الدقيقة، كما يمكن اعتماد نموذج تعليمي مزدوج اللغة، نموذج تدريجي يبدأ بتدريس المواد الأساسية والسريرية بالعربية، مع الحفاظ على تعليم المصطلحات الإنجليزية، وإلزامية إتقان لغة أجنبية واحدة على الأقل، تماماً كما تفعل الدول الأوروبية.
خاتمة الكلام، تعريب التعليم الطبي ليس شعاراً رومانسياً وليس ترفاً فكرياً، بل هو استثمار في العقل البشري العربي، استثمار في مستقبلنا الصحي، ووسيلة لتحقيق رعاية صحية أفضل لمجتمعاتنا، فيه تكريس للسيادة الثقافية وتأكيد لهويتنا الحضارية. إنها دعوة نوجهها لكل الغيورين على لغتهم وأمتهم للانضمام إلى هذه المبادرة، لنعمل معاً نحو تعريب يخدم العلم ولا يعيق التقدم، يحافظ على الهوية ولا ينغلق على الذات. إنها دعوة لنتوقف عن كوننا مجرد مستهلكين للعلم، وأن نتحول إلى شركاء في إنتاجه. إن الإرادة الجماعية، والتخطيط السليم، والشراكات الفاعلة، هي التي ستحول هذا الحلم إلى واقع، لتخرج أجيال من الأطباء والعلماء قادرين على خدمة مجتمعاتهم بلغتهم، والمنافسة عالمياً بلغات الآخرين.
أمين عام المجلس الصحي العالي السابق


















