د. سلطان المعاني : الموارد البشرية والقيادات محرّكان استراتيجيان

تبدأ الدولة أي إصلاحٍ من الإنسان الذي يدير مؤسساتها. تُعدّل الأنظمة وتُحدّث المنصات، ثم تكتشف أن النتائج تظلّ رهينةً بأداء فرق العمل ونمط القيادة. تُبرمج الرؤى والخطط، ثم يتكشّف أنّ الحلقة الحاسمة هي كيف نختار ونطوّر ونقيّم القيادات، وكيف نحفّز الكفاءات ونحمي النزاهة. تُظهر التجارب أن إدارة الموارد البشرية عندما تبقى إدارة رواتب وإجراءات، فإنها تُقنّن الجمود؛ وعندما تتحوّل إلى وظيفةٍ استراتيجية قائمة على الكفاءات، فإنها تُطلق القدرة المؤسسية الكامنة.
تُعرَّف الكفاءات أولاً بوضوح: معرفةٌ تخصصية، ومهاراتٌ رقمية، وسلوكيات خدمةٍ عامة تقوم على النزاهة والجرأة المسؤولة والعمل التعاوني. تُربط هذه الكفاءات بكلّ دورة حياة الموظف: من توصيف الوظيفة إلى التعيين، ومن التدريب إلى الترقّي، ومن التقييم إلى التعاقب القيادي. تُنشأ لذلك «منظومة كفاءات» وطنية للقطاع العام تجعل الانتقال بين الوزارات ممكناً دون خسارة الخبرة، وتمنح القيادات أدواتٍ متّسقة لتوزيع المهام وبناء الفرق.
تُحوَّل آليات الاختيار إلى «اختبار أثر» لا «اختبار سيرة». تُعقَد مراكز تقييم تحاكي مواقف واقعية: إدارة أزمة، قيادة فريقٍ متعدد الاختصاصات، اتخاذ قرارٍ تحت ضغط المعلومة والوقت. تُقاس القدرة على قراءة البيانات وصياغة سياسةٍ موجزة، وتُرصد سلوكيات النزاهة والانضباط والمسؤولية الاجتماعية. تُستبدَل قوائم الانتقاء التقليدية بملفّ قيادي واضح المعايير، وتُصبح المناصب العليا جزءاً من «سلكٍ قيادي» مُعلن الشروط، مربوطةٍ بعقود أداء سنوية.
تُفعَّل الحركيّة بين الجهات العامة لضرب الجزر المؤسسية. يُتاح للموظف أن ينتقل بين الوزارات والهيئات ضمن مساراتٍ وظيفية واضحة، ويُعاد تصميم الحوافز كي لا يُعاقَب المنتقلون. تُنشأ قاعدة مهاراتٍ وطنية تُظهر أين تتكدّس الخبرات وأين تتناقص، فتوجّه التعيين والتدريب وسدّ الفجوات. تُستثمر هذه الحركية لبناء قياداتٍ تعرف الإدارة من زوايا متعدّدة: مالية، وتشريعية، وخدمية، ورقمية.
تُراجع بنية الحوافز كي تكافئ الأثر، لا الحضور الشكلي. تُربط المكافآت بتحقيق مستهدفاتٍ مُعلنة للجودة والوقت ورضا المواطن، ويُستعاض عن التقييم الإنشائي بمؤشراتٍ قابلة للقياس، ربع سنوية وسنوية. تُلزم القيادات بنشر ملخّص إنجازاتها وخططها التصحيحية على مواقع مؤسساتها، فيتحوّل التقييم إلى وعدٍ عامّ يَسهل مساءلته.
تُؤسَّس النزاهة باعتبارها ركيزة موارد بشرية لا شعاراً خارجياً. تُصمَّم قنوات آمنة للإبلاغ عن التعارض والمخاطر، وتُتاح رقابة مجتمعية على الإعلانات والتعيينات والترقيات من خلال نشر بياناتٍ مجمّعة عن التوزيع الجندري، والفئات العمرية، ومجالات الخبرة، والفجوات. تُدرَّس النزاهة كمهارة إدارية، ويُربط الإخلال بها بمسؤوليةٍ قيادية واضحة.
تُعاد صياغة التدريب بوصفه «تطويراً مستمراً» لا دوراتٍ متفرّقة. تُبنى مسارات تعلمٍ شخصية لكل موظف، تُركّز على الأدوات الرقمية، وتفسير البيانات، وصنع القرار، والاتصال العام. تُقاس البرامج بنتائج تطبيقها في مكان العمل: مشروعٌ نفّذه المتدرب، إجراءٌ حسّن الخدمة، أو حلٌّ ابتكاريّ خفّض كلفةً ووقتاً. تُفتح قاعات التدريب للتعلّم بين الأقران، وتتكوّن مجتمعات ممارسةٍ تتشارك الحلول بدلاً من إعادة اختراع العجلة.
تُدار عمليات التعاقب القيادي بخططٍ مُحكمة. تُحدَّد الوظائف الحرجة ويُعيَّن بدلاء محتملون لكلّ منها، ويُبنى لهم برنامج تطويرٍ مُسرّع، وتُختبر جاهزيتهم عبر تكليفاتٍ قصيرة تحاكي المسؤولية الفعلية. تُعالج بذلك فجوة «اليوم التالي» عند أيّ انتقال، وتُستبقى الخبرة المؤسسية في المكان الصحيح.
تُدمَج الموارد البشرية بالتحوّل الرقمي. تُنشَر لوحات متابعةٍ علنية تُظهر مؤشرات التوظيف، والتدوير، والتدريب، ورضا العاملين، والوقت المستغرق في إجراءات أساسية. تُصبح البيانات أساس القرار: أين نزيد الملاك؟ أين نُعيد الهيكلة؟ كيف نقلّص التعقّد الإداري بلا مساسٍ بالخدمة؟ يتغيّر السؤال من «مَن وقّع؟» إلى «ماذا تحقق؟».
تَختتم القيادة هذا المسار بإعلان ميثاقٍ مهني يربط المنصب بالقدوة: التواضع المعرفي، والإنصات، وتحرير المبادرات، واحترام الخبرة الميدانية. تُضبط السياسات، نعم، لكن الأشخاص هم من يحرّكونها. وعندما تُدار الموارد البشرية بهذا المنطق، يتحوّل الجهاز العام من بيروقراطيةٍ مُنهَكة إلى منظومةٍ تتعلّم وتبتكر وتُحاسِب وتخدم بثقة


















