د.عامر سبايلة يكتب :- واشنطن بين تفكيك الميليشيات وصناعة ثقافة "اللا صراع".. ما الذي ينتظر المنطقة؟

يؤكد الرئيس ترامب أن الانتقال إلى المرحلة الثانية في اتفاق غزة بات قريبا، ورغم عدم وضوح ملامح هذا الانتقال أو شكل القوة الدولية التي يُفترض أن تتسلم إدارة القطاع، فإن الفراغ القائم يمنح إسرائيل المساحة الأوسع لفرض رؤيتها على الأرض، والاحتفاظ بقدرتها على تنفيذ عمليات استهداف مباشر لعناصر حماس، بل والمضي في ممارسة ضغوط تهدف إلى تسهيل خروج سكان قطاع غزة تدريجيا.
وفي الوقت نفسه، وعلى الساحة اللبنانية، تواصل إسرائيل توجيه ضربات إلى حزب الله ومنشآته وأفراده. ومع استمرار الضغط الأميركي على الدولة اللبنانية، بدأ هذا الضغط يظهر نتائجه باتجاه الدفع نحو مفاوضات مباشرة بين لبنان وإسرائيل، بصيغة تُخرج الملف من الإطار العسكري إلى الإطار السياسي.
ويمكن النظر إلى هذا التحول باعتباره كسرا لأحد أكبر التابوهات، لكنه في الوقت ذاته يمثل نقلا للأزمة إلى الداخل اللبناني. فالجيش اللبناني، الذي لم يقم بما يرضي واشنطن في مسألة سحب سلاح حزب الله، يجد نفسه اليوم مضطرا لفتح خطوط سياسية مباشرة، وهو ما يعني ضغوطا داخلية أكبر من الحزب في سياق الرفض والاحتجاج. لكن هذا المسار السياسي لن يوقف إسرائيل عن مواصلة استهداف الحزب وبنيته التحتية وقدراته العسكرية.
وفي السياق ذاته، أعلنت السلطات السورية ضبط شحنة أسلحة كانت متجهة إلى حزب الله في لبنان، وقد جرى تسويق الخطوة باعتبارها «إنجازا مهما»، ووصل الأمر إلى حد تلقي الحكومة السورية تهنئة من قائد القيادة الوسطى الأميركية. وهذا يشير بوضوح إلى أن الدور المطلوب من دمشق يتوزع على مسارين رئيسين:
أولا، منع تدفق السلاح إلى لبنان ومواجهة وكلاء إيران على الأرض السورية.
ثانيا، محاربة التنظيمات الإرهابية مثل داعش والقاعدة والفصائل المتفرعة عنهما، والتي بدأت تُظهر طموحا متزايدا لفرض نفسها كلاعب أساسي ينازع السلطة السورية.
إن عدم قدرة السلطة السورية على إظهار فاعلية حقيقية في مواجهة هذه التنظيمات قد يدفعها إلى التركيز بشكل أكبر على الملف اللبناني المرتبط بحزب الله، حفاظا على الاهتمام والدعم الأميركي، والظهور بمظهر اللاعب الفاعل — على الأقل مرحليا — خصوصا مع تزايد الحديث عن محدودية قدرة "أحمد الشرع" على معالجة ملف التنظيمات الإرهابية والقضاء عليها.
إن دفع واشنطن بالمسارين، مسار المواجهة مع وكلاء إيران ومسار التطبيع السياسي مع إسرائيل، يعني أن هناك تزامنا واضحا بين العمليات العسكرية على الأرض وبين التأسيس لواقع سياسي تسعى الإدارة الأميركية لترسيخه كإطار لسلام إقليمي يريد الرئيس ترامب تحقيقه.
ومن الواضح أن هذه المقاربة لن تبقى محصورة في جبهة لبنان، بل ستشمل أيضا العراق، الذي يجد نفسه اليوم في مواجهة مباشرة مع هذا الواقع الجديد الذي تعمل واشنطن على فرضه.
فملف بعض الميليشيات، التي تُعد تهديدا وفق الرؤية الأميركية أو تعمل كذراع عملياتي لصالح إيران، قد يدخل مرحلة مواجهة مشابهة لما يحدث في ساحات أخرى.
وبعيدا عن الجبهات العسكرية المباشرة، يتضح أن الإدارة الأميركية — في إطار رؤيتها الأوسع لإعادة صياغة شكل المنطقة وفرض تسويات جديدة — لا تكتفي بنزع سلاح الميليشيات والتنظيمات المسلحة، بل تسعى أيضا إلى فرض «ثقافة اللّا صراع». وهذا يعني أننا أمام محاولة لإحداث تغيير جذري في الأدبيات والثقافة السياسية التي سادت المنطقة لعقود طويلة. وهو تغيير لن يكون سهلا، لكنه يبدو جزءا من إصرار أميركي يتجلى من خلال خطوات عملية تتجاوز مسألة توسيع الاتفاقيات الإبراهيمية.
فعلى سبيل المثال، لا يمكن اعتبار خطوة وضع تنظيم الإخوان المسلمين على لائحة الإرهاب مجرد خطوة عابرة، ولا يمكن للدول الحليفة لواشنطن التعامل معها كإجراء تقني يشبه تصنيف داعش أو القاعدة. فالمسألة تتجاوز الملاحقة الأمنية للأفراد والمؤسسات والحسابات البنكية، إلى مواجهة منظومة فكرية تعتبرها الإدارة الأميركية أحد المصادر الأساسية لإدامة بيئة الصراع في المنطقة.
وهذا التحول قد يضع العديد من الدول أمام واقع صعب وغير مسبوق، يتطلب قدرا كبيرا من الحنكة والجرأة السياسية في التعامل مع التداعيات المرتقبة لهذا التحول في السياسة الأميركية

















