+
أأ
-

د.محمد صبحي العايدي يكتب :- مواقع التواصل الاجتماعي (3): الوعي الوطني في زمن الاستقطاب

{title}
بلكي الإخباري

 

 

الوعي الوطني زمن الاستقطاب هو خط الدفاع الأول في عالم تتكاثر فيه الأصوات، وتتنافس على إعادة تشكيل الانتماء، ففي الفضاء الرقمي لم تعد تدار الخلافات بوصفها تنوعاً طبيعياً في الرأي، بل تدفع عمداً نحو الانقسام الحاد، حتى يصبح الوطن نفسه موضع شك، لا إطاراً جامعاً.

 

صار يستهدف الوطن من داخله من خلال خطاب ناعم يتسلل إلى العقول، يعيد تعريف الوطنية، ويفرغها من معناها الجامع، فالوطن في هذا الخطاب لا يعود بيتاً مشتركاً، بل ساحة تصفية حسابات تختزل فيه القضايا الكبرى في لحظات انفعال، وتقدم فيها الأخطاء بوصفها أدلة إدانة نهائية، وهنا يصبح الوطن في مرمى الشاشات، ليس لأن الحقيقة غائبة، بل لأن الأصوات المأجورة أعلى منها.

إن معركة الوعي تسبق دائماً معركة السياسة، فلا تنهار الدول إلا إذا انهار إدراك الناس لما يجمعهم، وحين تدار النقاشات بمنطق الاستقطاب، لا بمنطق الحوار، يتحول الخلاف الطبيعي إلى تهديد وجودي، ويعاد توصيف الرأي المخالف بكونه خطراً لا وجهة نظر، حينئذ يدخل الانتماء مرحلة الاختبار، فهل الانتماء أن نصفق فقط لما نؤمن به؟ أم أن نحمي المساحة المشتركة التي تسمح لنا بالاختلاف؟ فحين يختزل الوطن إلى منشورات للتراشق، يفقد قدرته على الجمع، ويصبح هشاً أمام خطابات التفكيك.

قد أثبتت التجارب في دول عديدة أنها فشلت، لا لأن مواردها نضبت، أو حدودها اخترقت، بل لأن وعيها الداخلي بمفهوم ومسؤوليات الوطن قد اختلت، فانتشر بينهم خطاب الكراهية الرقمي الذي مزق نسيجها وحول أبناءها إلى خصوم، وسهل على القوى المتربصة توجيه الصراع نحو الداخل، فحين يغيب الوعي الوطني تصبح المنصات أدوات تفكيك لا تعبير. 

وفي هذا السياق تظهر منصات بلا وطن، لا تعترف بالمصلحة العامة، ولا ترى في المجتمع إلا مادة للاشتعال، منصات ترفع شعارات الحرية، وهي تمارس الإلغاء، وتتحدث عن الوعي، وهي تغذي الكراهية، فهي لا تعمل بمنطق الصدفة، بل وفق ديناميات محسوبة، تضخم الخلافات، وتعيد تدوير الغضب، وتدفع الأفراد إلى الاصطفاف الحاد، حتى يفقد الانتماء الوطني معناه.

والاستقطاب في حقيقته اختبار للوعي، وعي يدرك أن الفتنة لا تدار دائماً عبر خطاب مباشر، بل كثيراً ما تدار رقمياً، عبر تحريك الانفعالات، وإشعال المنصات بقضايا هامشية، واستدعاء أسوأ ما في الذاكرة الجمعية، فحين تدار الفتنة بهذا الشكل، لا يحتاج الخصم إلى جهد كبير، لأن المجتمع يكون قد أنهك نفسه بنفسه.

ومن هنا يطرح السؤال الأخطر: من يحارب الوطن عبر المنصات؟

الجواب لا يقتصر على جهة واحدة، بل يشمل شبكات من الحسابات الوهمية، تدار كحروب صغيرة، لكنها ذات أثر كبير، حسابات تحركها أجندات سياسية أو أيديولوجية، وأخرى تبحث عن إسقاط الدولة لا الإصلاح، وثالثة تحركها دوافع شخصية وانتقامية وتصفية حسابات، ورغم اختلاف الدوافع تبقى النتيجة واحدة: إضعاف الداخل وتآكل الثقة، وتحويل المجتمع إلى خصم لذاته، هكذا يصبح الوطن ضحية الاستقطاب الرقمي، لا لأنه ضعيف بل لأن وعي أبنائه استنزف.

إن مواجهة هذا الواقع تبدأ بإعادة الاعتبار لفكرة أن «الوعي الوطني» هو خط الدفاع الأول، وعي نقدي يحصن الفرد من التلاعب الرقمي، ويعيد الاعتبار للمصلحة الوطنية بوصفها سقفاً جامعاً، وعي يفرق بين الإصلاح وبين التشكيك الشامل الذي يضرب الثقة من جذورها، وعي يدفعنا للسؤال: من المستفيد من هذا الخطاب؟ وما ثمنه على السلم المجتمعي؟ كما تتطلب المواجهة دوراً تكاملياً للمؤسسات التعليمية، والإعلامية، والدينية، في ترسيخ خطاب عقلاني يوازن بين المصلحة الوطنية والآراء الشخصية، ويعيد ترتيب الأولويات في الوعي الوطني.

فحماية الداخل تكون بفتح العقول والتربية على الحوار، وعلى إدارة الاختلاف، وعلى فهم أن المواطنة لا تعني التطابق، بل الالتزام بقواعد مشتركة تحفظ الكرامة الإنسانية، وتمنع الانزلاق إلى العنف الرقمي، فالسلم المجتمعي لا يهدد فقط بالسلاح بل بالكلمة حين تفلت من وعيها، وحين ندرك أن الخاسر الأكبر من خطاب التفكيك هو الوطن ذاته، ندرك أن الدفاع الحقيقي حين نعرف أن الأوطان لا تسقط حين يكثر خصومها، بل حين يضيع معناها في عقول أبنائها.

*باحث في الفكر الإسلامي