م. معاذ مبيضين :- الهندسة الغائبة في فجوة التطبيق والمساءلة

تتكرر في كل موسم مطري ذات المشاهد التي باتت تشكل ضغطاً على الوجدان العام في الأردن؛ شوارع غارقة، وانهيارات في بنى تحتية يفترض أنها صممت لتصمد لعقود. ومع كل حادثة غرق وفيضان، يبرز السؤال التقليدي حول جودة التخطيط وكفاءة المهندس الأردني. إلا أن القراءة العميقة للمشهد تشير إلى أن المعضلة ليست في المعرفة الهندسية، بل في الأمانة الإجرائية وفي المساحة الفاصلة بين المواصفة المكتوبة والواقع المُنفذ.
لا يواجه الأردن شحاً في الكفاءات الهندسية؛ فالمهندس الأردني يعد من أبرز الصادرات البشرية في المنطقة، وكلياتنا الهندسية تمتلك إرثاً مشهوداً له. كما أن المواصفات الفنية والمقاييس المعتمدة في عطاءاتنا العامة تضاهي أرقى المعايير الدولية. إذن؛ فنحن أمام مفارقة تتمثل في وجود مدخلات ممتازة (كفاءات ومواصفات) ومخرجات متعثرة. هذا التباين يؤكد أن الخلل يكمن في العملية التحويلية؛ أي في آليات التنفيذ والرقابة التي تحكم العلاقة بين المخطط والواقع.
أحياناً؛ تُختزل الهندسة في رسم المخططات، لكن جوهرها الحقيقي في المشاريع العامة هو الضبط والسيطرة. وما نشهده اليوم من هشاشة في مواجهة الظروف الجوية هو نتاج لغياب الهندسة كفعل رقابي. فعندما تغيب الرقابة الصارمة في الميدان، تصبح المواصفة الفنية مجرد حبر على ورق، ويتحول المقاول إلى طرف يبحث عن تعظيم الربح على حساب الجودة في ظل غياب "العين الرسمية" التي تضمن مطابقة التنفيذ للتصميم. فانهيار شارع أو فيضان نفق ليس فشلاً للنظريات والقوانين الهندسية، بل هو فشل في حوكمة التنفيذ.
إن جوهر أزمة البنية التحتية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمنظومة المساءلة في الأداء المؤسسي، حيث يعتبر الإنجاز انعكاساً للمحاسبة بالتوازي مع الجهد المبذول. فحين تمر حوادث الغرق والانهيارات دون تحديد دقيق للمسؤوليات —بدءاً من المصمم ووصولاً إلى المشرف والمستلم— فإننا نُكرس ثقافة الإفلات من النتيجة، فغياب الرقابة الفاعلة يعني ضمناً تعطيل مبدأ الثواب والعقاب، مما يجعل من تكرار الأخطاء الهندسية سلوكاً مؤسسياً متوقعاً وليس حادثاً عرضياً.
البنية التحتية ليست مجرد إسفلت وأنابيب تصريف وصرف صحي؛ هي استثمار في القيمة العامة وأمن المواطن اليومي. والاستمرار في معالجة النتائج من سحب للمياه وترميم الانهيارات دون معالجة الأسباب المتمثلة في غياب الرقابة وتطبيق المواصفة، هو استنزاف للموارد الوطنية. فالتحدي الأبرز اليوم لا يكمن في جلب تقنيات جديدة، بل في استعادة هيبة الرقابة الهندسية وفرض سيادة المواصفة الفنية على أرض الواقع، بعيداً عن الترضيات أو التهاون.
كل ما سبق، يحتم علينا إعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمتعاقدين لتصبح قائمة على النتائج والمحاسبة، لا أن نبقى نحمل التغير المناخي وزر فجوات الرقابة وضعف حوكمة الميدان، فاستدامة البناء تبدأ من استدامة الرقابة، وهي مسؤولية أخلاقية قبل أن تكون هندسية.
















