د. محمد رسول الطراونة : قول على قول "لماذا نموت؟"

يقدّم الدكتور عاصم منصور في إحدى مقالاته المنشورة في إحدى الصحف الأردنية مؤخرا بعنوان "لماذا نموت؟" طرحًا فكريًا متعدد الأبعاد، يجمع بين الرؤية العلمية والأخلاقية والدينية في محاولة لفهم الموت ليس كظاهرة بيولوجية فحسب، بل كمسألة وجودية تمس جوهر الإنسان ومعنى الحياة. المقال يثير أسئلة عميقة تتجاوز السطح البيولوجي لتلامس قضايا العدالة الاجتماعية والأخلاق والقيم الروحية، وهو ما يجعل منه قراءة ثرية تستحق التأمل ، من عادتي أن أقرأ المقالات لمرة واحدة ولا أعود اليها، إلا أن هذا المقال كان استثناء وخرج عن المألوف.
يستند الدكتور منصور في طرحه العلمي لفهم الشيخوخة والموت جزئيًا إلى أفكار من كتاب "لماذا نموت؟"للباحث فينكي راما كريشنان، الذي يقدم تحليلًا علميًا عميقًا لآليات الشيخوخة على المستوى الجزيئي والخلوي، مما يضيف مصداقية علمية لرؤية الكاتب ويثري النقاش حول الموت من منظور بيولوجي معاصر.
يبدأ الكاتب من منطلق علمي يشرح عملية الشيخوخة بيولوجيًا، مبينًا أنها ليست لغزًا غامضًا، بل عملية قابلة للدراسة والقياس، وهذا المنهج يضع الموت في إطاره الطبيعي والمفهوم، مما يزيل بعض الهالة الأسطورية المحيطة به، لكنه لا يكتفي بذلك، بل ينتقل إلى الأسئلة الأخلاقية والاجتماعية التي تطرحها إمكانية إطالة العمر عبر التقدم العلمي. هنا يظهر تفرده في الربط بين القدرة التقنية والمسؤولية الأخلاقية، حيث يتساءل: من سيستفيد من هذه الإطالة؟ وهل ستكون حكرًا على الأغنياء؟ وكيف ستؤثر على العدالة الاجتماعية والموارد العالمية؟ هذه الأسئلة تعكس وعيًا عميقًا بالتحديات التي قد تصاحب التقدم العلمي إذا لم يرافقها تقدم أخلاقي وإنساني. من أبرز محاور المقال النظرة إلى الموت ليس كنهاية مطلقة، بل كمرحلة ضمن رحلة أوسع، فمن خلال الرؤية الدينية التي يتبناها الكاتب، يصبح الموت بوابة لحياة أخرى، مما يعطيه معنى جديدًا ويغير نظرتنا إليه من "خسارة" إلى "انتقال"، هذه النظرة تساعد في تقبل فكرة الموت كجزء طبيعي من دورة الوجود،كما يلفت الكاتب الانتباه إلى بعد آخر مهم، وهو دور الموت في تحقيق العدالة بين الأجيال، حيث يفسح المجال للأجيال الجديدة، ويضمن تجدد الحياة وتوازنها،هذا البعد الاجتماعي والديموغرافي يجعل الموت ليس مجرد حدث فردي، بل ظاهرة مجتمعية مؤثرة.
يتناول المقال بإسهاب فكرة إطالة العمر التي أصبحت ممكنة علميًا، لكن الكاتب يحذر من الانبهار بالممكن دون التفكير في العواقب،فهو يشير إلى أن السعي لتحسين نوعية الحياة في الشيخوخة هدف مشروع، لكنه يتحول إلى هوس إذا لم يرافقه سؤال "لماذا نعيش؟" وليس فقط "كيف نعمر؟". هذا التحذير مهم في عصرنا الحالي، حيث يقدّم العلم حلولًا تقنية قد تسبق قدرتنا على استيعاب آثارها الأخلاقية والروحية. كما يثير الكاتب قضية نوعية الحياة المطولة، مؤكدًا أن الهدف ليس إضافة سنوات للحياة فقط، بل إضافة حياة لهذه السنوات، بحيث تظل مرحلة الشيخوخة فترة عافية وإنتاجية وليست مجرد امتداد للمعاناة.
من أعمق الأفكار في المقال هو النظر إلى الموت باعتباره ما يعطي الحياة معنى وقيمة، فإدراكنا لحتمية الموت وزوال الدنيا هو ما يدفعنا للإنجاز والبحث عن الخلود عبر الأعمال والأفكار والإرث الإنساني. هنا يلتقي المنظور الديني مع الفلسفي، حيث يصبح الموت محفزًا على العطاء وليس سببًا لليأس، وكما قال الروائي الأمريكي ميتش ألبوم في كتابه "الثلاثاء مع مورى": "تعلم كيف تموت، فتتعلم كيف تعيش".
يختتم الكاتب مقاله بتأكيد أن الموت ليس عدوًا يجب هزيمته بأي ثمن، بل جزء من رحلة الإنسان التي يجب فهمها وتقبلها. وهو يدعو إلى توازن بين السعي العلمي لتحسين الحياة، والحكمة الوجودية في تقبل حتمية الموت، هذا التوازن هو ما نحتاجه في عصرنا الحالي، حيث يقدّم العلم إمكانيات هائلة، لكن الحكمة الإنسانية هي التي ستوجه هذه الإمكانيات نحو غايات نبيلة.
باختصار، المقال ليس مجرد شرح علمي للشيخوخة، بل هو تأمل فلسفي وديني واجتماعي في معنى الموت والحياة، وهو يذكرنا بأن السؤال "لماذا نموت؟" لا يمكن فصله عن السؤال الأكبر: "لماذا نعيش؟"، وأن الإجابة عنهما يجب أن تسير جنبًا إلى جنب في رحلة البحث عن الحكمة والإنسان الكامل.
وأود الاضافة هنا في اطار "قول على قول" وأنا واثق بأن الكاتب يعرف جيدا مكنون قولي، بأن الموت، في المنظور الإسلامي، هو خروج الروح من الجسد بإذن الله تعالى، عند انقضاء الأجل الذي كتبه الله في اللوح المحفوظ، لقوله تعالى: "وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا" ، فهذا يؤسس لاستسلام قلبي وعقلي لحكمة الله، فالموت ليس "عطبًا" في النظام البيولوجي فحسب، بل هو تحقيق لمشيئة الله التي لا تُسأل عما يفعل.
الحياة الدنيا بما فيها والموت بحدوثه المفاجئ أو المتوقع، هما محك الإيمان. كيف يتعامل الإنسان مع حتمية الموت؟ هل يجزع؟ هل يغتر بالحياة وينسى الآخرة؟ هل يسعى فيما يرضي الله استعداداً لهذا اللقاء؟ قال تعالى "الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا" . فالحكمة من خلق الموت والحياة هي الابتلاء والامتحان، فالمشاهدات العلمية للشيخوخة، رغم دقتها، لا تغني عن هذه الحقيقة الغيبية.
إن النظرة الإسلامية تُحوّل الموت من "نهاية" إلى "بداية"، من فناء إلى خلود، ولكن في دار أخرى. هذه النقلة هي جوهر الإيمان، فالموت ليس مجرد "خدمة للنظام البيئي" أو "تداولاً للأجيال" فحسب – رغم صحة ذلك في مستواه – بل هو الانتقال إلى دار القرار، حيث إما إلى جنة عرضها السماوات والأرض، وإما إلى نار.
خلاصة القول على القول : لماذا نموت؟ نموت لأن الله قدّر ذلك، وجعله آية من آياته، واختباراً لحكمته، وانتقالاً إلى دار كرمه، والفهم العلمي للآليات يُشبع العقل، ولكن الإيمان بالحكمة الإلهية يُطمئن القلب ويُصلح العمل. فالموت في الإسلام هو تذكير بالآخرة، ومُحفّز على العمل الصالح، ومُوازن لرغبات النفس، ومُذكّر بالضعف أمام القوي العزيز، بهذا الفهم المتكامل، نعيش الحياة بنشاط ومسؤولية، ونلاقي الموت برضا وتطلع إلى رحمة الله.
أمين عام المجلس الصحي العالي السابق
















