"محمد داودية" ذكريات وعِظات (12)

تعلمت من صحبتي مع جدي، الحرص على مجالسة الرجال الأكبر مني سنا والأوسع معرفة والأعمق تجربة.
عززت مُجالسةُ الكبار لدي، متعةَ التعرّف على المجريات والمصائر والعبر والخلاصات والحِكم التي تزخر بها كتب المذكرات التي تشمل التاريخ والسيرة الذاتية واخبار الأمم والقادة.
اصبحت حريصا على وشغوفا بالاطلاع على التجارب التي دونها اصحابها من كل مكان وزمان.
ومنها عبقريات عباس محمود العقاد التحليلية المذهلة السبع:
عبقرية محمد. عبقرية المسيح. عبقرية عمر بن الخطاب. عبقرية ابي بكر الصديق. عبقرية عثمان بن عفان. عبقرية علي بن ابي طالب وعبقرية خالد بن الوليد.
ومذكرات وسِيَر مثل مقدمة ابن خلدون: العبر وديوان المبتدأ والخبر. ومقاتل الطالبيين لابي الفرج الاصفهاني ومذكرات مارك توين وسجن العمر لتوفيق الحكيم والايام لطه حسين ومذكرات كيسنجر وحصاد الزمن الصعب لطاهر المصري وقصة كفاح نلسون مانديلا و"قصة سنغافورة" للعبقري لي كوان يو.
ومذكرات تشيرشل ودوغول ورومل ومونتغمري واحمد عرابي وجيفارا وكاسترو والشاذلي والجمصي وعمرو موسى واوراق الشهيد الملك عبدالله الأول ومذكرات الملك الحسين- مهنتي كملك.
وآلاف السير والمذكرات "الذاتية" التي كتبها اصحابها، او السير "الغيرية" التي كتبها غيرهم من كتاب وصحافيين، بما تحمله من خلاصات تجارب وبوح وكشف وتعرية واعترافات وبما تشكله من الهام وقدوات ونماذج. وبما تصقله من مسارات أخلاقية وبما تكرسه من قيم ومناقب، من الضروري ان تطّلع الاجيالُ عليها وتتشرب حكمتها وروحها.
وانا اعكف الان على قراءة كتاب جون نكسون استجواب الرئيس (المقصود الرئيس صدام حسين يرحمه الله).
صاحبتني هذه العادة إلى عمان حيث خلاصة وكثافة و"أسنس" التجارب الأردنية.
ولأنه "في بيته يؤتى الحكم" فقد كنت اقصد سياسيي عمان وحكماءها من مختلف الإتجاهات السياسية، في بيوتهم وفي أماكن تواجدهم.
جالست الرجال الكبار وحاولت أن أخذ منهم قبسا من نور المعرفة والتجربة والحكمة وشيئا من الاسرار:
الملك الحسين والامير الحسن والأمير زيد بن شاكر وزيد الرفاعي وعبدالسلام المجالي وطاهر المصري وعبدالرؤوف الروابدة وعبدالكريم الكباريتي وفيصل الفايز.
ومحمد عودة القرعان وعبد خلف داودية وعبد الرحمن شقير ونايف حواتمة ويعقوب زيادين وحمد الفرحان ويحيى حمودة وعرفات حجازي وابراهيم بكر وهاني الخصاونة وابراهيم ابو عياش وزياد ابو غنيمة ومحمود الموسى العبيدات ومنير الدرة وتيسير ظبيان ومريود التل وعبد الحميد السائح وسليمان الحديدي وعبد الله العوران وخليل السالم وجودت السبول وجمعة حماد وسليمان عرار واحمد الطراونة وعلي ابو نوار ومعن ابو نوار وخالد الساكت وذهني رأفت وسعد الدين جمعة وسالم النحاس وصلاح ابو زيد وابراهيم سكجها ومحمود الكايد وعبد الرحيم عمر وذوقان الهنداوي ونذير رشيد وسعيد التل وحسن التل ومحمود الشريف وكامل الشريف وشاهر ابو شحوت وأمين شقير وليث الشبيلات وصلاح جمعة وسميح البطيخي وزهير العجلوني والحاج محمود الداودية ومحمد إبراهيم المرافي ومحمد بشير وابراهيم ابو ناب وطارق مصاروة وانيس المعشر وجمال الشاعر ومحمود السمرة وفؤاد سعد النمري وعبد الله الريماوي وحمدي مطر وحسين مجلي وجودت المحيسن وجمال البدور ومحمد باجس المجالي.
وعشرات غيرهم ينطوون على تجارب وطنية وقومية وأممية غنية متنوعة.
كنا في نحو الخامسة عشرة من عمرينا، انا وصديق الطفولة عبد المهدي علي التميمي الذي يكبرني بعشرين يوما، نبحث عن حكماء المفرق، ولا نتوقف عن زيارتهم في منازلهم او في متاجرهم، نستمع اليهم بتبجيل وبيقظة وتفكّر.
وفي مرحلة لاحقة واصلت مع سمير الحباشنة الاتصال مع الجيل المؤسس العظيم الذي ضحى وتحمل وكافح وشق اكثر الدروب وعورة ليقدم لنا وطنا جميلا صلبا مهابا سنحافظ على جماله وصلابته، ان لم نتمكن من زيادتها.
كان فينا ظمأ الى الحصول على ما تحقق للرجال من معرفة في مدرسة الحياة الرحبة، التي لا تحيط بها الكتب. فذهبنا الى منابعها ومظانّها، لا نمل من البحث عنها.
استمعنا الى المكتبيَين البارزين، محمد سكّر العقايلة وموسى فريح السهاونة. والى محمد علي اخو ارشيدة وحمدي ابو السمن ومحمد قاسم العيطان وفيصل الدغمي وطلب ابو عليم ورئيس البلدية محمد سلامة الحسبان والد الشهيد فرحان وهايل السرور ومحمد علي بصبوص وعبد الله بصبوص والشاعر حسن غالب حسونة وصايل الحسبان وعادل عوجان والطبيب مارون شباط وعادل الشريقي وابي العلاء الداغستاني وشوقي حمارنة وعمر الرواد وعلي التميمي والخوري بولس حداد وفارع النهار الشواقفة وثلجي فريح النمري وفرحان فريح النمري ونايل سلامة حجازي وعيد المعاني وأبو حلمي عبد الهادي والشقيقين محمد ومزعل مشري الخوالدة (جدي لأمي) وحميد شردم (ابو احسان وتحسين) ونور الدين الشريف وعبد الفتاح المغربي والدكتور أبو عبدالوهاب البغدادي والشقيقين محمود وعلاء مكّي الذي اصبح رئيسا لتحرير صحيفة المجاهد الجزائرية.
أخذنا الكثير من اولئك الحكماء. ادهشتنا تجاربهم الواسعةَ العريضة وفتنتنا وتشربناها قطرةً قطرة، وطبقنا ما امكننا من نصائحَهم الثمينة المتنوعة التي لا تقدر بمال.
واستمعنا الى قصص البسطاء والمسخمين التي تحمل الكثير من العبر والدروس.
استمعنا من ضمن ما استمعنا الى قصة مذهلة، حدثت مع فلاح بسيط، تصلح ان تُدرّس في ارقى جامعات العالم التي تهتم بالاستراتيجيا.
بعد مرور عشر سنوات على الحادثة المرعبة، التي وقعت في الاغوار الشمالية، في منتصف الخمسينات من القرن الماضي، يقص علينا "أبو هنوش" بصوت متوتر منفعل مرتعب متذبذب، وهو يلوح امام اعيننا بيده اليسرى المبتور منها اصبعان، فيقول و عمر القارئين يقول ابو هنوش:
كان الوقت ظهرا، في شهر حزيران وكنت وحدي في هجير كجهنم الحمراء، أحصد قمحا "وأهيجن" حين برزت لي الأفعى القاتلة من بين السَّبَل ومن تحت المنجل، لدغت يدي اليسرى وانسلت هاربة.
في تلك اللمحة-البرزخ بين الحياة والموت، لم افكر في مطاردة الأفعى والانتقام منها !
نطقت الشهادتين وأخذت ابكي واولول، حتى انني اخذت اعزي نفسي قائلا: "الدايم الله. عظّم الله أجركم" واكثر ما هصر قلبي هو إدراكي ان عيالي تيتموا".
كنت مُستفرَدا في تلك الفلاة، لا هاتف لا سيارة لا فرس لا مركزا طبيا ولا سامع صوت.
كان سم الافعى القاتل يتفشى في جسمي. وأكاد أحس دبيبه وسريانه. رأيت الموت يدنو مني.
التقطت المنجل الذي وقع مني ووضعت يدي اليسرى على "الصفاة" وهويت عليها بمنجلي، وبلمح البصر رأيت اصبعين يطيران في الهواء ويتقافزان امامي كإفعيين.
شددت حزامي على رسغي لوقف النزيف الذي حمل معه السم، وغرقت في غيبوبة كالموت حتى العصر، حين هرع الى مكاني، الاهل والحصادون من "الموارس" القريبة.
في سرعة الضوء، إتخذ الفلاح الأمي البسيط أبو هنّوش، الذي لم يدخل مدرسة، قرارا استراتيجيا مصيريا صائبا، قرارَ حياة، لا مجال لإتخاذ قرار غيره اكثر منه صوابا.
بتر جزءا من جسمه ليسلم جسمه كله.
في المفرق، البلدة المغبرة الجافة، كما في كل ارجاء مملكتنا، حكمةٌ وافرة مفيدة قد تشكل بوصلة وهداية ونجاة، ملقاة على قارعة الطريق. تقدموا لها يا شباب الوطن.
حكمة وافرة تلمسها وتشمها وتشربها، وتراها تسعى في الطرقات تقول لك خذني أيها الانسان وأنقذ نفسك بي.
تكمن المشكلة في أنّ الكل مكتفٍ. والكلُّ يوزّع الحكمة، التي لا ينشدها احد، ومنها حكمة الحياة، التي دمغها الحكيم "أبو هنّوش" بالدم.
حين تداولت حكاية ابي هنوش مع الشاهد الصديق عبدالمهدي التميمي آثر ان يعلق عليها، فأرسل لي النص الجميل التالي:
"تعرّض ابو هنوش للدغة ثعبان في ذلك المكان البدائي، و لم يجد من يعينه أو يداويه، فاستعان بالله وبقوته الداخلية وبغريزة البقاء وبحكمة الأجيال.
واهتدى الى الحل الشجاع الفذ.
قرر ان يبتر أصابع يده قبل ان يتسرب السم الزعاف الى كل أجزاء جسمه ويفتك به.
تناول منجله القاطع، واجترح حل الحياة الوحيد، متخذا بسرعة البرق، قرارا خرافيا في هوله وفي معانيه.
تخلص "أبو هنوش" من جزء نابض حي من جسمه، من اجل ان تظل الحياة تنبض وتسري في باقي جسمه.
قاوم ابو هنوش ثعبانا واحدا وهزمه. اما نحن فعلينا ان نواجه ونهزم مجموعة كبيرة من الثعابين الذين يحاولون ان يشوهوا ديننا وعروبتنا وان ينهبوا قوتنا ويسمموا حياتنا.
اخي أبو عمر. لقد جعلت "ابو هنوش" الرجل البسيط الفقير، الذي يشبهنا ونعرفه ويعرفنا، في مصاف الابطال الشعبيين. فقد جلوت النسيان عن فروسيته، بسبب قرار فذ سيخلده.
أما نحن فلا زلنا تعوزنا الإرادة لنتخذ القرار الذي يخلصنا من الثعابين الكثيرة.
يقول الماهاتما غاندي:
أول الحكمة أن تعرف الحق.
وآخر الحكمة ألا تعرف الخوف.
واعتقد ان المثابرة تشكل مدخلا واسعا للنجاح حسب رأي صموئيل جونسون الذي يخلص الى ان:
الأعمال العظيمة لا تنجز بالقوة، بل بالمثابرة.
قوة المعرفة موجودة في مجالس الحياة وفي الكتب. وليست حيث تسالي وطق الحنك على منصات التواصل الاجتماعي.



















