"محمد داودية".. ذكريات و عظات (24)

كان دم الفلسطينيين في بيروت ما يزال طريا، عندما زرت ميشيل النمري في تموز عام 1974. اخذني في جولة الى شارع فردان قائلا: هنا اغتالت الموساد في نيسان العام الماضي القادة كمال عدوان وكمال ناصر وأبو يوسف النجار.
جال بي ميشيل في سيارة الفولكس واجن على مناطق عديدة في بيروت أولها مقبرة الشهداء الفلسطينيين في شاتيلا، قلت له: دعني هنا ساعة من الزمن.
غادرني وهو يقول انه سينتظرني في الفكهاني. سألت الحارس عن اللحد فدلني، قرأت الفاتحة على روح غسان كنفاني، كانت صورته مركونة على شاهدة اللحد، يحيطها برواز خشبي يمسك زجاج الصورة يلتف حوله طوق ساتان اسود مكرمش متهدل، بادرت الى شدّه وترتيبه، وبالقرب من الشاهد كان اكليل ورد على وشك الذبول.
كان ميشيل ينتظرني في مكتب الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين في الفكهاني، عاصمة منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت، عند صديقه ابن مدينة الطفيلة، ناصر (عبد الحميد الشبيلات).
تدربنا معا، عبد الحميد الشبيلات وانا في معسكر الجيش بعوجان قرب مدينة الزرقاء وكان ذلك في من منتصف حزيران الى منتصف آب 1968، بعد عام على هزيمة حزيران، وبعد معركة الكرامة بثلاثة شهور.
كان معنا عدد من المعلمين يزيد على 80 معلما من مختلف انحاء الاردن، ينامون في الخيم العسكرية الخضراء التي تتسع الواحدة منها الى 3 او 4 أسرّة.
اخذْنا احدى تلك الخيم، عبد الحميد ومحمد سدر وعودة الصقور وانا، كنا ننام بعد العَشاء مباشرة ونحن على اشد درجات الاعياء، ويتم ايقاظنا على الساعة الخامسة صباحا لممارسة الألعاب السويدية والاستحمام وتناول الافطار اللذيذ الذي يتكون عادة من الخبز الجيشي والزبدة والمربى والبيض المسلوق والحمص واللبنة.
يدخل عبد الحميد الشبيلات في المرء مثل النعس، شجاع، تلقائي، متدفق، كريم، فوضوي. كم كنت جذلا بلقاء الصديق ناصر ذي العينين الصافيتين والشارب الكثيف. و ما نزال نتواصل حميد وانا بانتظام.
ميشيل وسيم، يتحلى بالجسارة والمبادرة، اقتحامي، مندفع، مرتب، مستعجل جدا، يتحلى بقدرات تنظيمية كبيرة، وهو من اسرع من عرفت في بناء العلاقات وتحمل الضغط والاساءات.
نشأنا معا في المفرق، المدينة التي تلتقي فيها طرق بغداد ودمشق وعمان، وعندما قرر المغادرة تهريبا الى لبنان تفاديا لإعتقال جديد، جاءني من عمان الى المفرق، قبل منتصف الليل بقليل، مودعا.
سلمني مفتاح غرفته التي تقع في المنطقة الواقعة بين وادي صقرة وشارع الأمير محمد في عمان. كان ميشيل ثابتا واثقا غير مرتج، كأنه ذاهب الى عرس.
قال: ساتسلل مع رفيقين، عبر الحدود الأردنية السورية مع مهربين أردنيين محترفين من أبناء المنطقة الذين يعبرون الحدود يوميا وهي معروفة لهم جيدا. وهذا التسلل قام به العديد من الرفاق وما يزالون.
عانقني وقال وهو ينفلت: انا متوجه الى عناق جميل آخر، هو أصعب عناق. كان متوجها الى منزل والدته ام رياض، التي ستحثه على البقاء في الأردن، دون جدوى.
لقد اكتمل بدر هذا الفتى ميشيل، الذي حمل بجسارة، ودون ان يصغي للوعيد او يكترث للتهديد، راية الحريات العامة الديمقراطية في الوطن العربي، وفضح، دون استثناء، تنكيل الأنظمة العربية بشعوبها في "النشرة" التي أصدرها من قبرص ثم من أثينا، حيث تربّص به القتلة المأجورون واردوه شهيدا على مدخل البناية التي كان يعمل فيها في أثينا عام 1985.
كان ميشيل عجولا جدا، ما كان "طير عيشة" كما قالت ام رياض عندما عاد اليها ملفوفا بالعلم الوطني.
كان ميشيل أجمل من ان يعيش.
انخرطت في العمل مع المعلمين الذين يطالبون بإحياء نقابة المعلمين الأردنيين.
تحدثت مع العم عبد خلف الداودية أول نقيب منتخب للمعلمين الأردنيين عام 1954 فقال لي أن حل النقابة عام 1958 كان بسبب موقفها السياسي المناويء للحكومات. وكان يمكن عدم حلها لو حل الحوار محل "النقار" بيننا وبين الحكومة.
قال لي العم ابو محمد انا لست مع تسييس النقابة، فثمة الكثير الكثير لانجازه من اجل مصلحة المعلم والطالب والعملية التعليمية والبلد، مما كان يقتضي علاقات "حسن جوار" مع الحكومات.
ومن الصدف الغريبة ان هيئة مفوضي احياء نقابة المعلمين السرية، كانت تضم 3 طفايلة هم: إبراهيم الجرابعة وغالب الفريجات وأنا، بالإضافة إلى احمد جرادات واحمد النسور وعبد القادر الحسنات ومنعم الصويص.
عملت معلما في ست محافظات و في 13 مدرسة حتى عام 1977 عندما استشرت، وخالفت اراء كل من نصحني بعدم الاستقالة، فركبت رأسي وغامرت واستقلت وتفرغت للصحافة.
تربطني الى اليوم أطيب العلاقات مع أهل القرى التي درّست فيها ومع طلابي الذين كانوا بالنسبة لي بمثابة أبنائي. ومنهم من اصبح وزيرا كالبروفيسور فيصل الرفوع- بصيرا 1970. والدكتور سالم الخزاعلة -الدجنية 1972.
في مدرسة "المعطن" عملت بضعة شهور -1969- بمعية مدير المدرسة عطالله ارحيّل البداينة، الذي ظلت علاقتي به إلى اليوم في أزهى حالاتها. وما زلت أنادي أبا وائل كلما ألقاه "مديري".
وذات يوم في مدرسة المعطن، شتمني احد الطلاب شتيمة من الزنار وتحت. خزقت الشتيمة أذني. كنا في الفرصة الصباحية وكان الطالب مع طلاب آخرين، يجلسون تحت السور يتشمّسون وكنت أقف قرب السور عندما سمعت الطالب وهو يطلق الشتيمة. لم يكن احد منهم يراني.
قلت لنفسي: إن عرف الطالبُ أنني سمعته، فعليّ أن أعاقبه عقابا شديدا، يحفظ هيبتي أمام الطلاب، كي لا يجسر احدٌ منهم على التطاول على أي معلم.
قررت أن اطبق قاعدة: "السفيه أُخسره" أي تجاهله.
"بلعتها". استدرت ورجعت، فلم يعرف الطالب أنني سمعته، ولم يكن من تمام التربية أن أخلق مشكلة يمكن أن لا تكون. ولم أحاول حتى ان اتحقق من وجه الطالب. وبكل تأكيد فإنني لو عرفته لما حملت عليه.
كيف، وانا شديد التأثر بقصيدة المقنع الكندي التي يقول فيها: "فليس كريم القوم من يحمل الحقدا".
في الدجنية عملت بمعية مدير المدرسة عواد الفنخور الخزاعلة الذي ربطتني علاقات طيبة به وبوالده ووالدته واشقائه وخاصة شقيقه سفيرنا في السودان محمود باشا الذي كان حينذاك طالبا في المفرق.
واستمرت علاقاتي بصديقي الشيخ عواد المحمد الخزاعلة أبو نايف -نص الدنيا- وابنائه النشامى وبالمعلمين نوفان الكراسنة وعبد الكريم عقاب الخالدي ومحمد الشوحة.
وسكنت في منزل الشيخ راشد الطرودي الخزاعلة ابو الصديق ناصر عشت بينهم وكنت واحدا من الاسرة التي ظلت تربطني بهم وما تزال اقوى الروابط واصفاها.
ولما أصبحت وزيرا للشباب بادرت إلى إنشاء مركز للشباب في بلدة الدجنية عام 1996.
وبالإضافة الى حصصي الاسبوعية المقررة، كنت معلم كشافة. وأذكر مشاركة الطالب فلاح العموش وزير الاشغال الاسبق والأستاذ فيصل عبيدات في المخيمات الكشفية.
وَسَم الأستاذ جميل النمري هذه السردية بوسم "الدراما"، مقترحا اعدادها لتصبح عملا فنيا تلفزيونيا.
يكتب جميل: "إنما الزوبعة العاتية التي عصفت بأركان الذاكرة هذه الأيام فقد أطلقها محمد داوودية في مقالاته بالدستور.
كنا أصغر ببضع سنوات من جيل داوودية وكنا نراهم كما تحدث عنهم بالفعل شخصيات أسطورية. وليس غير قلم محمد داوودية الفذ وذاكرته الخارقة يمكن أن تؤسطر الأشخاص والأحداث الواقعية الصغيرة كما لو أنها في عرض هوليودي من سينما الستينيات.
ولحسن الحظ أن ذاكرة خارقة أخرى عاونت داوودية في الضبط والتدقيق والتوسع هي ذاكرة عبد المهدي التميمي.
ويواصل جميل: إنما لا أستطيع منع نفسي من التفكير في باب حارة أردني مستوحى من مذكرات داوودية ويمكن أن يكون هو نفسه معد السيناريو ولا حاجة لافتعال دراما كاذبة.
مروية داوودية البيوغرافية الأردنية ترتقي إلى واقعية أسطورية مذهلة -وفق ما يوصف به أدب غابرييل غارشيا ماركيز- تحتاج فقط إلى نقل إلى الشاشة. وهو معروف وخدمة للفن وللأردن يستطيع أن يصنعه مخرج شاطر".
تحظى هذه السردية القريبة من مقام السير والمذكرات، التي احب أن أقرأ مثلها محليا وعربيا وامميا، باهتمام وحفاوة عدد من الأصدقاء، وجهوا لي ملاحظات يطلب اكثرُها ان اضمها في كتاب.
واعتقد ان مئات من ابناء الأردن يجب ان يكتبوا السيرة التي عاشوها وذاقوا حلاوتها ومرارها.
وعلى سبيل الذكر: مازن الساكت والدكتور العبد العكايلة وهاشم الزيادات العبادي وجميل النمري وعبدالمهدي التميمي وزهرية الصعوب ومنار النمري.
والرجال والنساء والجنود والضباط الذين بنوا الأردن ورفعوه على زنودهم الى العلى.
فليست المذكرات الجميلة التي نحتاجها، صناعة الرؤساء والوزراء فقط.
رد الملك الحسين يرحمه الله ويحسن اليه على كل من طالَبه بالالتفات الى شؤون الأردن الخاصة ونفض اليد من القضية الفلسطينية والى افتتاح بازار توقيع معاهدة سلام مع إسرائيل قائلا: "لن يكون الاردن اول الموقعين. ان نصف شعبي يتطلع الى العودة ونصف شعبي الآخر يدعمه لاسترداد حقوقه المغتصبة".
هذا هو موقف الملك الهاشمي على الدوام. وهو كذلك موقف كل أردني على الدوام، منذ بيان ناجي باشا العزام في مؤتمر قم يوم 6 نيسان 1920 واستشهاد الشيخ كايد المفلح العبيدات اول -وليس اخر- شهيد اردني على ثرى بلادنا فلسطين عام 1920.



















