النكسة الوجع الذي لم يغادر الذاكرة

أطلق عليها المتفائلون مصطلح النكسة، للهروب من توصيف الهزيمة لتلك الكارثة القومية التي أطفأت الكثير من شموعنا في ليل حزيران القاسي، وتركت بصماتها واضحة في المسيرة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للعرب حميعا.
في ذلك الحزيران البعيد، كنا نسجل انتصارات وهمية عبر أثير الإذاعات، وكان العدو يعيد رسم خارطة اغتصابه للأرض التي تعدت حدود فلسطين التاريخية، فكانت الصدمة بحجم الحلم الذي ظل بعيدا، وامتلأت حياتنا بحكايات جديدة عن واقع ظل عصيا على الفهم لفترة طويلة.
نكسة حزيران سرقت منا نصف الوطن، وغيبت عن مسامعنا نداءات الله أكبر تنطلق من مآذن الاقصى، وصوت أجراس الكنائس الشجي الذي كان يملأ فضاء بيت لحم، كما أغرقت رمال صحراء سيناء بالهزيمة، وغطت تلال هضبة الجولان بالرايات البيضاء، التي وضعت حدا قاسيا بين مرحلتين، واحدة ظلت متشبثة بالحلم والأخرى بدأت تمهد طريق الواقعية.
الهزيمة التي وصفناها بالنكسة، وحدت الجغرافيا الفلسطينية تحت سطوة الاحتلال، وقربت المسافة بين البحرين، المتوسط والميت، تحت حراب الاحتلال، وجعلت من اللغة العبرية، لغة المنتصرين التي يكتب بها تاريخ المرحلة، لتصبح تل أبيب المغناطيس الذي يجذب مفاتيح العواصم العربية.
نكسة ذلك الحزيران البعيد، أطاحت بهيبة البطل وحطمت صورة الزعيم الذي علق عليه آباؤنا أحلام عودتهم إلى مواقع الصبا، حين وصل هدير دبابات المحتلين إلى شرفات منازلنا التي كنا نعتقد أنها آمنة، وصار العربي موعودا بالهزيمة، أمام ذلك الجيش الذي أوهمونا بأنه لا يقهر.
النكسة التي أنجبت معها العمل الفدائي، في محاولة للتعويض النفسي عن صورة الزعيم التي غادرت جدران البيوت العتيقة، أنجبت معها خطابا سياسيا مضللا، دفعنا ثمنه حق العودة الذي لم يعد مقدسا في أجندة المغرمين بطاولة المفاوضات، وصارت يافا حلما بعيد المنال، بعد أن تقطعت بنا السبل في الطريق إلى نابلس.
تلك الفاجعة القومية التي حاول السياسيون المحترفون تضليل الرأي العام عبر التخفيف من نتائجها الكارثية على الوطن والأمة، هي التي قدمت اكسير الحياة لدولة كنا نسميها عدوا، وفتحت لها العواصم العربية أبوابها سرا، تحت مبرر البحث عن طرق مشرفة للتنازل عن الحقوق التاريخية، باسم الواقعية التي أصبحت عنوانا رديفا للهزيمة.
النكسة هي المنعطف الذي قصم ظهر جيلنا، فقد ذهبنا الى الحرب متسلحين باثير الاذاعات، في وقت تسلح فيه عدونا بالقوة ورباط الخيل، لنفيق من ذلك الحلم الكابوس على وقع القصائد التي جلدت الذات العربية، حين كان العدو يشرب نخب انتصاره في شوارع مدننا الغارقة بالصدمة والمجللة بالحزن والسواد.
النكسة ليست حربا خسرناها، لكنها تاريخ جديد كتبه عدونا في وقت عجزنا فيه عن ترتيب اولوياتنا، وظلت نقاط خلافنا، حتى في تفسير الهزيمة، اكثر من نقاط اتفاقنا.
استسغنا التضليل الذي انتجته ماكنة النظام الرسمي، وقلنا إن الجماهير لم تهزم، وهي قادرة على إعادة الأمور إلى نصابها، لكن كل هذه السنوات التي عملت على تكريس الهزيمة بنتائجها وحدت بين الخطابين الرسمي والشعبي، وبرزت قوى كنا نراهن عليها، تبرر السير في طريق الواقعية، التي تظل رديفا للهزيمة.
لم تعد النكسة مجرد ذكرى لحدث عابر في تاريخنا الحديث، بل تحولت الى يافطة مرفوعة في وجوهنا باستمرار، حين مزقت بقسوتها العباءة التي كانت تستر بعض عرينا، وجدار الخيمة التي زرعنا في محيطها شتلات احلامنا الطرية.
اختلفت التسميات والتوصيفات لهذه الهزيمة القاسية، بين الحرب والعدوان والنكسة، لكن المصطلح الاسرائيلي قرنها بالايام الستة، لتظل تلك الايام هي الاكثر قسوة في تاريخنا المعاصر.
اعترفنا بالهزيمة، لكننا لم نذهب الى قراءة اسبابها جيدا، فالبنادق والصواريخ التي اعددناها لتلك الحرب، لم تكن في متناول صدر العدو دائما، ولم تكن محشوة بالبارود وحده، فقد سقطت في ميدان المعركة تلك القصائد والاناشيد والشعارات التي تدربنا عليها كثيرا، لنجد الفضاء كله قد تكور في قبضة العدو.
نكسة حزيران، الم جارف اجتاح صدورنا، بعد ان سكنت الغشاوة في حدقات العيون، وسيظل حزيران اقسى الشهور، لان تلك النكسة ما تزال قادرة على تفريخ المواجع في زوايا نفوسنا المستفزة؛ وهي ثوب لم يكن على مقاس اجسادنا، صنع في عواصم عديدة، لكننا لن نتعايش معه، ما دام الحلم قادرا على الوميض.
بقلم الكاتب الصحفي : هشام عودة - رئيس تحرير بلكي الاخباري


















