النوايسة يكتب :أول الخوف وأول الوعي

بلكي الإخباري
عن شيبة ماضي وأبو رجل مسلوخه وكرسي مدير الناحية...
د. زيد النوايسة
أول الوعي وأول الخوف كان مرتبطاً في بواكير طفولتي بالمرحومين الشاويش أخليف الطراونة ومد الله الجعافرة وهما يعبران من سوق قريتنا وقد تفتحت عيناي على مظهرهما الصارم بلباسهم الشرطي الأزرق الداكن مع الشماغ الذي يعلوه الشعار وفي يد كل واحد منهم سوط يسوس فرسه وهو يجلب المتهمين الى المخفر المبنى من الحجر الذي يقع على تلة في الجنوب الشرقي من القرية وقد بني في الثلاثينيات وهو من أقدم المخافر في الأردن لأن قرية المزار من أقدم النواحي الإدارية في امارة شرق الأردن حينها...
كان "المخفر" وهي تسمية تركية لمركز الشرطة عنوان الخوف الثاني الذي رسخ في ذهني عن فكرة الخوف والعقاب وطبعاً بعد أسطورة الغولة وأبو رجل مسلوخه والعنز العنزوية بالإضافة للحديث عن شيبة ماضي وهي قصة حقيقة حصلت في قرى الخرشة عن وحش "الوشق" الذي ألتهم أبن ماضي الخرشة فظل الاب يصارعه حتى قتله ثاراً لفلذة كبده وبقية القصص المرعبة والمخيفة التي كانت تستخدمها الجدات حتى نستسلم للنوم وغالباً ما يكون الأمر حسم وانتهى في السادسة مساءً وطارت الطيور في أرزاقها...
كنت أعتقد أنهما أقوى شخصين في الكون وكم تمنيت ان يكون والدي – رحمه الله-بقوتهم لأن الأطفال في القرى لا يفاخرون بالألعاب عادة فهم يفاخرون بأن آبائهم اقوى ناس كالمصارعين وابطال الملاكمة... الشرطيين من أبناء قريتنا لا أحد يقف امام قوتهم في العالم كما كنت أفكر حينها فهم من يجلب للعدالة اللصوص الذين يسرقون الأغنام ومن يكسر زجاج المدرسة أو يسرق الدجاج من "زرب" ختيارة فقيرة تعتاش على مبيعات البيض البلدي أو من يسطو على دكاكين القرى البائسة أو من يكسر ماسورة مياه في أطراف القرية لسقاية اغنامه او لعبث طفولي أو بداية تشكل المراهقة والإعلان عن وجوده...
كنت اجلس امام "دكانة" والدي -رحمه الله- في بداية اكتشاف عوالم الحياة خارج حوش الدار وأتابع ما يجري باندهاشه نقيه تحرضني على السؤال الذي بقي بلا أجابه عن فكرة الخوف من رجال يمتطون الفرس ويتحدثون مع الناس بلغة آمره ودون سماع الرأي الأخر الى أن اقتربت منهم أكثر فصاروا من مصادر الفرح والسعادة ...
في تشرين أول من عام 1973 حدثت حرب تشرين/ رمضان بين سوريا ومصر من جهة والعدو الإسرائيلي وتأخر وصول شحنات السكر والرز بفعل الحرب وتدخلت الحكومة بأمر عرفي بتوزيع السكر ومنع احتكاره وكلفت حكومة الكرك – المحافظ يمثلها - دكانة والدي وكانت مركز التوزيع الوحيد للسكر في قرى جنوب الكرك وبالاشتراك مع الحاج خلف بن سليمان الطراونة بأن لا يتم الصرف الا بعد وصول كوبون من مدير الناحية المرحوم محمد أخليف الحباشنة أبو الرائد ؛ كان كل فرد يحصل على أوقية سكر وأوقية رز وحسب افراد العائلة وهو الامر الذي أحدث زحام شديد "عم" متجرنا فتدخل المخفر من خلال المرحومين مد الله الجعافرة وأخليف الطراونة لتنظيم الدور فاكتشفت أنهم أصدقاء والدي وكانت سعادتي لا توصف فقد كسرت حاجز الخوف وبدأت أتصرف كطبيعة العربي عندما يقترب من السلطة؛ أتقمص دورهم كرجال شرطة وأزجر الناس ولكن دون أن يقيم أحداً وزناً لي... ومع تقدم العمر بقيت تربطني فيهم مشاعر احترام ومحبة ومودة وكلما رأيتهم وقد تقدم بهم العمر يعبرون سوقنا في لباسهم العربي الثوب ومنديل الشماغ المهدب قفز لذهني ذلك المشهد وهم على ظهر الفرس ولم يفارقني حتى ونحن نودعهم الوداع الأخير رحمهم الله في مقبرة المزار قبل سنين خلت...
بعد أن يتسع الظل أكثر امام دكانة والدي التي تقع في الجهة الغربية من سوق المزار القديم وبعد صلاة العصر يبدأ الصالون الاجتماعي والعشائري لسرد تفاصيل اليوم بعد سماع اخبار إذاعة لندن بي بي سي والتعليق عليها الذي يختصر بمزيد من الإحباط من حال العرب وهزيمتهم المستحكمة ؛ يفترش معظم الرجال الأرض على أكياس الخيش أبو الخط الأحمر والأخضر وفي حالة زيارة مدير الناحية وهو أهم مسؤول في القرية المرحوم محمد أخليف الحباشنة وهو صديق حميم لوالدي صاحب مظهر انيق وملامح صارمه يرتدي بذلة سفاري سكرية اللون واحياناً كحلي بكم طويل مع منديل ابيض ونظارة شمسية سوداء ولديه سيارة حكومية اشبه بسيارات لادا تفردت بلونها الطحيني وهنا يستدعي الأمر ان أحضر له كرسي المكتب وهو كرسي معدني مسنده منجد بالجلد الأحمر وقاعدته من البلاستيك المجدول حصلنا عليه كهدية مع قارمه معدنية عليها شعار شاي الغزالين واسم والدي من الشركة التجارية الفلسطينية التي كنا نحضر منها صناديق شاي الغزالين اذ كان الشاي يستورد من سيرلانكا بصناديق خشبية كبيرة ويياع بالوزن وللشاي والسكر أهمية قصوى في القرى فهو الغذاء الرئيسي مع الخبز ومشروب الرفاهية بالإضافة لكونه علاج للرمد الربيعي للعيون ...
الحضور متحرك ومتغير بمعنى أن الجلسة متغيرة لكنني كنت ألحظ اهتمام والدي الشديد بأربع شيوخ مسنين وقورين ويصر على تكريمهم بالجلوس والاستماع لرأيهم وهما المرحومين الشيخ الجليل الوقور جميل الوجه والمحيا عبد الرحمن القطاونة واشقاءه أمطيع وعبد الرحيم وطايع القطاونة لاكتشف لأحقاً أنهم اخواله (أبناء عم جدتي) وهم الأقرب لجدتي شماء بنت الشهيد محمود ابن إسماعيل القطاونة الذي أعدمه المحتل العثماني مع خاله محمد بن علي الطراونة من على قلعة الكرك في 17/1/ 1911 لمشاركتهم في الهية ولا زلت أذكر ان جدتي وقد بلغت ما يقارب المائة عام رحمها الله كنت تعتز باهلها وفاء لوالدها الذي أعدم وهي أبنة العشر سنين فعاشت مع أبناء عمها...
مهمتي كانت محددة بإحضار الكرسي لمدير الناحية وسخان القهوة العربية وأبريق الشاي الأزرق الكبير الذي يكفي لخمسين شخص على الأقل وما زال موجود لدينا وأن أقف "مسمراً" كالمنيكان مستمعاً فقط ومنتظراً أي إشارة من والدي لتقديم القهوة لأي شخص ينضم للجلسة وإحضار كاسة شاي جديدة بالإضافة لكوني مرسال لأي شخص يستدعي الصالون الاجتماعي وجوده ودائما بسرعة البرق مع توبيخ صارم على التأخير...
الأحاديث تتمحور في الخدمات وأسعار الاغنام وشروط المرابعين في ذلك العام والمشاكل على أراضي الفج وهي واجهة أراضي تشهد حروب ومعارك بين الكركية والبدو منذ ما قبل الدولة وما زالت حتى الآن... ينظم للجلسة عادة بعض الشخصيات التي تملك حضور ومعرفة بحكم مجاورتنا في السوق كالمرحومين ذياب بن عبدالرحمن الطراونة وعلي التيهي وحسن بن درويش وفلاح بن فارس والنوري بن قبلان الخرشة وياسين البواليز ومحمد بن عقله صاحب بابور الطحين الأشهر... وطويل العمر صالح بن سليمان الطراونة والمرحوم أحمد بن سليمان النوايسة وفلاح بن سليم النوايسة وسليمان بن زامل وغيرهم ممن خدموا بالشرطة والفرسان والجيش مثل شاهر القطاونة وبركات النوايسة ومصطفى بن سلامة الطراونة وعبد الحميد بن سلمان النوايسة ومحمد بن إبراهيم النوايسة وجميعهم يتحدثوا عن الضفة الغربية والخيرات الزراعية فيها وأطماع اليهود ويتطرق الامر فيما يشبه الغمز عن كيفية التدخل في الانتخابات النيابية في ذلك الزمان وكيف كان التصويت يتم على طريقة "زرار بن كبوت" وهو ما لا يعجب مدير الناحية رحمه الله بحكم وظيفته الرسمية فالحكومات لدينا طاهرة عفيفة ونظيفه ...
كنت أنظر لمدير الناحية بأعجاب شديد ولم يكن الوعي والمعرفة قد تفتح عندي بعد ولم أكن أتخيل أن هناك من هو أعلى مكانة منه فكنت اتخيل انه "ملك قريتنا" لديه بيت من الحجر ولديه سيارة لونها طحيني ويرتدي ملابس نظيفة وعندما يحضر الولائم يجلس في صدر المجلس والكل يتقدم للسلام عليه يأمر فيطاع حتى أن عسكر المخفر الذين اخافوا الجميع يخشونه فتشكل منذ تلك اللحظات في مخيلتي صورة مختلفة عن السلطة والحكم وحتى قبل أن أدرك هذه الأشياء لاحقاً...
لقد تغير الزمن وتغير الناس وتغيرت نظرتهم للمسؤول وتغير المسؤول نفسه؛ وصارت تلك المصطبة امام الدكان التي كان يفترشها كل يوم نخبة من كرام الناس فارغة خاوية الا من صدى أصوات ذلك الجيل من الحكماء الذين مروا ونسجوا أجمل الحكايات والروايات وقصص التسامح والوفاء والنبل والإيثار...
رحل اخليف الطراونة وبعد سنوات رحل مد الله الجعافرة وقبلهم رحل والدي ومدير الناحية محمد أخليف الحباشنة ورحل معظم أعضاء النادي الاجتماعي وانطوت صفحة من أجمل الصفحات التي تشكلت في مخيلتي في بواكير الخوف وبواكير الوعي والقلق ولكنها تركت اندهاشة الطفل القروي الذي لا ينسى وشم الحكايات وتفاصيل الوجوه التي تقطر حكمة وصرامة وعزه...
المفردات: -
الوشق: حيوان مفترس شبيه بالقط سريع يقفز لعلو ثلاثة أمتار ينتشر في الصحراء ويسمى أحياناً شيبه.
المخفر: مركز الشرطة وهي تسمية تركية.
زرب: قن الدجاج الذي يستخدم في القرى لتربية الدجاج البلدي.
حوش الدار:ساحة المنزل الداخلية.
ماضي: رجل من عشيرة الخرشة أكل الوشق أبنه فظل يطارده حتى صرعه ثاراً منه.
عن شيبة ماضي وأبو رجل مسلوخه وكرسي مدير الناحية...
د. زيد النوايسة
أول الوعي وأول الخوف كان مرتبطاً في بواكير طفولتي بالمرحومين الشاويش أخليف الطراونة ومد الله الجعافرة وهما يعبران من سوق قريتنا وقد تفتحت عيناي على مظهرهما الصارم بلباسهم الشرطي الأزرق الداكن مع الشماغ الذي يعلوه الشعار وفي يد كل واحد منهم سوط يسوس فرسه وهو يجلب المتهمين الى المخفر المبنى من الحجر الذي يقع على تلة في الجنوب الشرقي من القرية وقد بني في الثلاثينيات وهو من أقدم المخافر في الأردن لأن قرية المزار من أقدم النواحي الإدارية في امارة شرق الأردن حينها...
كان "المخفر" وهي تسمية تركية لمركز الشرطة عنوان الخوف الثاني الذي رسخ في ذهني عن فكرة الخوف والعقاب وطبعاً بعد أسطورة الغولة وأبو رجل مسلوخه والعنز العنزوية بالإضافة للحديث عن شيبة ماضي وهي قصة حقيقة حصلت في قرى الخرشة عن وحش "الوشق" الذي ألتهم أبن ماضي الخرشة فظل الاب يصارعه حتى قتله ثاراً لفلذة كبده وبقية القصص المرعبة والمخيفة التي كانت تستخدمها الجدات حتى نستسلم للنوم وغالباً ما يكون الأمر حسم وانتهى في السادسة مساءً وطارت الطيور في أرزاقها...
كنت أعتقد أنهما أقوى شخصين في الكون وكم تمنيت ان يكون والدي – رحمه الله-بقوتهم لأن الأطفال في القرى لا يفاخرون بالألعاب عادة فهم يفاخرون بأن آبائهم اقوى ناس كالمصارعين وابطال الملاكمة... الشرطيين من أبناء قريتنا لا أحد يقف امام قوتهم في العالم كما كنت أفكر حينها فهم من يجلب للعدالة اللصوص الذين يسرقون الأغنام ومن يكسر زجاج المدرسة أو يسرق الدجاج من "زرب" ختيارة فقيرة تعتاش على مبيعات البيض البلدي أو من يسطو على دكاكين القرى البائسة أو من يكسر ماسورة مياه في أطراف القرية لسقاية اغنامه او لعبث طفولي أو بداية تشكل المراهقة والإعلان عن وجوده...
كنت اجلس امام "دكانة" والدي -رحمه الله- في بداية اكتشاف عوالم الحياة خارج حوش الدار وأتابع ما يجري باندهاشه نقيه تحرضني على السؤال الذي بقي بلا أجابه عن فكرة الخوف من رجال يمتطون الفرس ويتحدثون مع الناس بلغة آمره ودون سماع الرأي الأخر الى أن اقتربت منهم أكثر فصاروا من مصادر الفرح والسعادة ...
في تشرين أول من عام 1973 حدثت حرب تشرين/ رمضان بين سوريا ومصر من جهة والعدو الإسرائيلي وتأخر وصول شحنات السكر والرز بفعل الحرب وتدخلت الحكومة بأمر عرفي بتوزيع السكر ومنع احتكاره وكلفت حكومة الكرك – المحافظ يمثلها - دكانة والدي وكانت مركز التوزيع الوحيد للسكر في قرى جنوب الكرك وبالاشتراك مع الحاج خلف بن سليمان الطراونة بأن لا يتم الصرف الا بعد وصول كوبون من مدير الناحية المرحوم محمد أخليف الحباشنة أبو الرائد ؛ كان كل فرد يحصل على أوقية سكر وأوقية رز وحسب افراد العائلة وهو الامر الذي أحدث زحام شديد "عم" متجرنا فتدخل المخفر من خلال المرحومين مد الله الجعافرة وأخليف الطراونة لتنظيم الدور فاكتشفت أنهم أصدقاء والدي وكانت سعادتي لا توصف فقد كسرت حاجز الخوف وبدأت أتصرف كطبيعة العربي عندما يقترب من السلطة؛ أتقمص دورهم كرجال شرطة وأزجر الناس ولكن دون أن يقيم أحداً وزناً لي... ومع تقدم العمر بقيت تربطني فيهم مشاعر احترام ومحبة ومودة وكلما رأيتهم وقد تقدم بهم العمر يعبرون سوقنا في لباسهم العربي الثوب ومنديل الشماغ المهدب قفز لذهني ذلك المشهد وهم على ظهر الفرس ولم يفارقني حتى ونحن نودعهم الوداع الأخير رحمهم الله في مقبرة المزار قبل سنين خلت...
بعد أن يتسع الظل أكثر امام دكانة والدي التي تقع في الجهة الغربية من سوق المزار القديم وبعد صلاة العصر يبدأ الصالون الاجتماعي والعشائري لسرد تفاصيل اليوم بعد سماع اخبار إذاعة لندن بي بي سي والتعليق عليها الذي يختصر بمزيد من الإحباط من حال العرب وهزيمتهم المستحكمة ؛ يفترش معظم الرجال الأرض على أكياس الخيش أبو الخط الأحمر والأخضر وفي حالة زيارة مدير الناحية وهو أهم مسؤول في القرية المرحوم محمد أخليف الحباشنة وهو صديق حميم لوالدي صاحب مظهر انيق وملامح صارمه يرتدي بذلة سفاري سكرية اللون واحياناً كحلي بكم طويل مع منديل ابيض ونظارة شمسية سوداء ولديه سيارة حكومية اشبه بسيارات لادا تفردت بلونها الطحيني وهنا يستدعي الأمر ان أحضر له كرسي المكتب وهو كرسي معدني مسنده منجد بالجلد الأحمر وقاعدته من البلاستيك المجدول حصلنا عليه كهدية مع قارمه معدنية عليها شعار شاي الغزالين واسم والدي من الشركة التجارية الفلسطينية التي كنا نحضر منها صناديق شاي الغزالين اذ كان الشاي يستورد من سيرلانكا بصناديق خشبية كبيرة ويياع بالوزن وللشاي والسكر أهمية قصوى في القرى فهو الغذاء الرئيسي مع الخبز ومشروب الرفاهية بالإضافة لكونه علاج للرمد الربيعي للعيون ...
الحضور متحرك ومتغير بمعنى أن الجلسة متغيرة لكنني كنت ألحظ اهتمام والدي الشديد بأربع شيوخ مسنين وقورين ويصر على تكريمهم بالجلوس والاستماع لرأيهم وهما المرحومين الشيخ الجليل الوقور جميل الوجه والمحيا عبد الرحمن القطاونة واشقاءه أمطيع وعبد الرحيم وطايع القطاونة لاكتشف لأحقاً أنهم اخواله (أبناء عم جدتي) وهم الأقرب لجدتي شماء بنت الشهيد محمود ابن إسماعيل القطاونة الذي أعدمه المحتل العثماني مع خاله محمد بن علي الطراونة من على قلعة الكرك في 17/1/ 1911 لمشاركتهم في الهية ولا زلت أذكر ان جدتي وقد بلغت ما يقارب المائة عام رحمها الله كنت تعتز باهلها وفاء لوالدها الذي أعدم وهي أبنة العشر سنين فعاشت مع أبناء عمها...
مهمتي كانت محددة بإحضار الكرسي لمدير الناحية وسخان القهوة العربية وأبريق الشاي الأزرق الكبير الذي يكفي لخمسين شخص على الأقل وما زال موجود لدينا وأن أقف "مسمراً" كالمنيكان مستمعاً فقط ومنتظراً أي إشارة من والدي لتقديم القهوة لأي شخص ينضم للجلسة وإحضار كاسة شاي جديدة بالإضافة لكوني مرسال لأي شخص يستدعي الصالون الاجتماعي وجوده ودائما بسرعة البرق مع توبيخ صارم على التأخير...
الأحاديث تتمحور في الخدمات وأسعار الاغنام وشروط المرابعين في ذلك العام والمشاكل على أراضي الفج وهي واجهة أراضي تشهد حروب ومعارك بين الكركية والبدو منذ ما قبل الدولة وما زالت حتى الآن... ينظم للجلسة عادة بعض الشخصيات التي تملك حضور ومعرفة بحكم مجاورتنا في السوق كالمرحومين ذياب بن عبدالرحمن الطراونة وعلي التيهي وحسن بن درويش وفلاح بن فارس والنوري بن قبلان الخرشة وياسين البواليز ومحمد بن عقله صاحب بابور الطحين الأشهر... وطويل العمر صالح بن سليمان الطراونة والمرحوم أحمد بن سليمان النوايسة وفلاح بن سليم النوايسة وسليمان بن زامل وغيرهم ممن خدموا بالشرطة والفرسان والجيش مثل شاهر القطاونة وبركات النوايسة ومصطفى بن سلامة الطراونة وعبد الحميد بن سلمان النوايسة ومحمد بن إبراهيم النوايسة وجميعهم يتحدثوا عن الضفة الغربية والخيرات الزراعية فيها وأطماع اليهود ويتطرق الامر فيما يشبه الغمز عن كيفية التدخل في الانتخابات النيابية في ذلك الزمان وكيف كان التصويت يتم على طريقة "زرار بن كبوت" وهو ما لا يعجب مدير الناحية رحمه الله بحكم وظيفته الرسمية فالحكومات لدينا طاهرة عفيفة ونظيفه ...
كنت أنظر لمدير الناحية بأعجاب شديد ولم يكن الوعي والمعرفة قد تفتح عندي بعد ولم أكن أتخيل أن هناك من هو أعلى مكانة منه فكنت اتخيل انه "ملك قريتنا" لديه بيت من الحجر ولديه سيارة لونها طحيني ويرتدي ملابس نظيفة وعندما يحضر الولائم يجلس في صدر المجلس والكل يتقدم للسلام عليه يأمر فيطاع حتى أن عسكر المخفر الذين اخافوا الجميع يخشونه فتشكل منذ تلك اللحظات في مخيلتي صورة مختلفة عن السلطة والحكم وحتى قبل أن أدرك هذه الأشياء لاحقاً...
لقد تغير الزمن وتغير الناس وتغيرت نظرتهم للمسؤول وتغير المسؤول نفسه؛ وصارت تلك المصطبة امام الدكان التي كان يفترشها كل يوم نخبة من كرام الناس فارغة خاوية الا من صدى أصوات ذلك الجيل من الحكماء الذين مروا ونسجوا أجمل الحكايات والروايات وقصص التسامح والوفاء والنبل والإيثار...
رحل اخليف الطراونة وبعد سنوات رحل مد الله الجعافرة وقبلهم رحل والدي ومدير الناحية محمد أخليف الحباشنة ورحل معظم أعضاء النادي الاجتماعي وانطوت صفحة من أجمل الصفحات التي تشكلت في مخيلتي في بواكير الخوف وبواكير الوعي والقلق ولكنها تركت اندهاشة الطفل القروي الذي لا ينسى وشم الحكايات وتفاصيل الوجوه التي تقطر حكمة وصرامة وعزه...
المفردات: -
الوشق: حيوان مفترس شبيه بالقط سريع يقفز لعلو ثلاثة أمتار ينتشر في الصحراء ويسمى أحياناً شيبه.
المخفر: مركز الشرطة وهي تسمية تركية.
زرب: قن الدجاج الذي يستخدم في القرى لتربية الدجاج البلدي.
حوش الدار:ساحة المنزل الداخلية.
ماضي: رجل من عشيرة الخرشة أكل الوشق أبنه فظل يطارده حتى صرعه ثاراً منه.



















