+
أأ
-

النوايسة يكتب :أبطال شعبيون بلا أوسمه

{title}
بلكي الإخباري الحاجة نخله النوايسة وأبو فرحان أبطال شعبيون بلا أوسمه ... أبو زياد مستشار القرية الطبي ومزارعها الريادي... وصفة صديقي لمعالجة الثواليل ودم السلحفاة الأرملة... قبل أيام قادتني المصادفة اثناء وجودي في منطقة ماركا لصيانة سيارتي لمعرفة رجل في العقد السابع من عمره؛ حضر أيضا لصيانة مركبته من منطقة القطرانة شرق الكرك وتجاذبنا اطراف الحديث ، أبلغني أنه يعيش في السعودية منذ 45 عام ويعود زائراً للأردن دائماً وعندما علم أنني من عشيرة النوايسة من الكرك بادرني بالسؤال وبلهجة بدوية "الطبيبه اللي تعالج الناس عايشه" واجبته طبيبه وما هو تخصصها وكل الظن انها ممن تخرج من كلية الطب في جامعة مؤته أو غيرها ولكنه بادرني بانها شيخه كبيره تلبس "كزلك أي نظارة طبية" تعالج عن كل شيء تسكن شرقي مسجد جعفر الطيار وان والده احضره من القطرانة قبل اكثر من خمسين عام لمعالجته عندما عجز الحكيم في الكرك ... ويقول أنه مرض وبئس وصار هزيلاً ولم يستطيع القيام بأي عمل(يبدو أنه أصيب بفقر دم شديد في تصوري) وأبلغوا اهله بعض من يجاورهم من العربان (اهل الاغنام) في منطقة القطرانة أن هناك طبيبه تعالج الناس في المزار ببركات سيدنا جعفر (رض) وهو ما حصل أنهم شدوا الرحال للمزار وبعد الفحص الاولي شخصت الطبيبه الحالة واعطتهم الادوية والمكونة من الأعشاب؛ البعيثران والسفوف لكنها طلبت من أهله أن يلتهم شيء من مادة تسمى "الوشقه" وهي مادة ذات رائحه كريهة حتى تخرج الديدان من الأمعاء وبعد ذلك عليه أن يفطر على السمن والتمر ويلتهم "معلاق بدون الفشه" أي كبدة الغنم فقط لمدة أسبوعين متواصلة وهو ما حدث فعلاً وبعدها تحسنت حالته... يحمل الرجل جميلاً كبيراً للطبيبة وهي الحاجة المرحومة نخله بنت سلمان النوايسة ام راجي – رحمها الله- ووالدتها حمده بنت محمد بن سلمان جدي الكبير لوالدي والتي اشتهرت ووالدتها هلاله بنت سليمان الطراونة بمعالجة عرق النسا والعقم والامراض المستعصية حسب مفاهيم ذلك وهي أهم قابله قانونية في اواخر القرن الثامن عشر في المزار وجوارها من القرى وأعتقد أن توارث المهنة الطبية جاء من جدتنا هلاله السيدة التي كان يضرب المثل في جمالها وطولها ذات العينين الخضراء مهابة الجانب والشخصية القوية التي انعكست على ابناءها وبناتها لاحقاً عطاالله أبو سيفين وحسين جدي وسالم وعبد الحافظ رحمهم الله. وهو يتحدث معي قفز لذهني سؤال مهم عن ارتباط الطب الشعبي في القرى دائما بالنساء وهل ذلك مرتبط بأنهن أكثر عاطفة من الرجال أو لأن مسؤولية البحث عن حلول لمشاكل الأطفال من ناحية العلاج والغذاء لم يكن أولوية في مجتمع يخرج الرجل فيها للعمل والبحث عن الرزق ولماذا صارت مهنة الطب الشعبي متوارثه بين النساء... في طفولتي أدركت المرحومة الحاجه نخله فهي بنت عمة والدي وبنت خالة والدتي والحاجة سلمى القطاونة جدة أبناء عمي حمود رحمه الله وعرفت جدتي شما القطاونة وصندوقها الخشبي الأخضر الذي يحتوي على كل أعشاب الدنيا التي تنفع أو لا تنفع وبمجرد فتح الصندوق تخرج روائح الأعشاب العابقة وهو بمثابة الصيدلية من البعيثران للسفوف (يستخدم لأمراض القولون والامساك) قبة عبد السيد للبابونج ولجرية الحمامة (يستخدم لأمراض الكلى) عشبة المراتج (تستخدم لعرق النسا والتمزق العضلي) وعرفت أيضاً خالتي صبحا بنت محمد الطراونة وهي طبيبة مشهورة في قرية الحسينية أيضا حصلت على شهادة الطب بالوراثة من جدتها هلاله بالإضافة لقوة شخصيتها وصندوقها الخشبي الذي يحتوى على اهم التركيبات العشبية لمختلف الامراض وكن جميعاً يعتمدن على شيخ العطارين في قريتنا المرحوم الحاج عبد الرحمن القطاونة الرجل البشوش الوجه المؤمن ... كان البدو والفلاحين من القرى المجاورة يتوافدون يوم الجمعة مع نساءهم لزيارة قبر سيدنا جعفر ومن ثم زيارة طبيبات القرية وأهمهن المرحومة نخله النوايسة وهي بمثابة الطبيب الاستشاري لأن معظم الوافدات تم تحويلهن من طبيبات رعاية أوليه في القرى والعربان بعد فشل المعالجة الأولية... وهناك أيضا من كان يذهب لبعض من كان يتخصص بكتابة "ورق المحبة" او "يفتش عن المسحور" أو "يفك المربوط" ولا أدري لماذا كانت قريتنا تجمع الاختصاصين رغم تناقضهم وربما أن ذلك يعود لسبب رئيسي أن الفاطميين مكثوا طويلا في قرية جعفر( المزار لاحقا) وقد أهتموا في هذه الجوانب وظهرت في القرية الفرق الصوفيه والموالد الدينية التي انتشرت لاحقاً في بلاد الشام كما يشير المؤرخين عن تلك الفترة الفاطمية... في كثير من الأحيان كانت الميثولوجيا والشعوذة تسيطر على أذهان الناس وأذكر أنني عانيت في طفولتي من ظهور "الثواليل" في يدي وهي ندب جلدية وكنت كل يوم أسمع عن طريقه لمعالجه ومنها ربط خيط من قميص رجل حسود سبع وسبعين عقده ورميه على مفترق طرق أو الحصول على دهن من كبد الضبع أو دم سلحفاءه أرمله وكلها طبعا مستحيلة وخصوصا دهن الضبع بالإضافة لعدم وجود آلية للتأكد من ان السلحفاة أرملة... لكن اطرف ما وصف لي ما جاء من احد اقاربي وهو زميلي في الصف وأكد لي أن الوصفة الناجعه وفيها الشفاء الوحيد وهي عبارة عن "بصقه" على نفس الثالوث وعلى مدار ثلاث أيام متتالية من فم رجل طيب في قريتنا رحمه الله فحمدت الله أولا أن الثواليل في يدي وليست في وجهي وفوجئت أن جزاء كبيرا من القرية لديهم نفس الوصفة المجربة وعندما أخبرت والدي رحمه الله حملني الى طبيب جلدية شهير في الكرك من عائلة الصناع على ما اذكر وعالجني بعد ان صنع خلطة خاصة ونفذت من "البصقه" ... كانت القرية تصحو على الوافدين الباحثين عن أهم "مجابري" شعبي وهي تسمية طبيب العظام والكسور الأشهر في جنوب الأردن المرحوم أكريم النوايسة "أبو فرحان" الذي ذاع صيته منذ أن ورث المهنة عن والده فالح بن مطلق أهم مجابري في شرق الأردن دون منازع؛ أبو فرحان رحمه الله كان صاحب أغنام ومزارع ولكنه أتقن مهنة المجابري ومعالجة الكسور وبرع فيها وكانت أدواته المتواضعة عبارة عن لوح صابون نابلسي وقطعة قماش وشرطان ينتظره الناس في سوق القرية القديم أو على باب مسجد جعفر يعالجهم بالمجان ولاحقاً صار يطلب صورة أشعه بل أن العديد من أطباء العظام أشادوا بمعالجته وفي أحيان كثيرة تم استدعائه لعمان لكبار القوم لعلاجهم وهناك العديد من القصص التي ترتبط بابوفرحان الذي صار من معالم المزار وعناوينها بين الناس التي لا تنسى وقد رحل قبل سنوات وودعته الكرك والمزار وداع يليق به كبطل شعبي ارتبط بوجدانها وبخدماته للناس عبر سبعين عام من معالجاتهم مجاناً... الطب الشعبي هو الأساس في القرى عموماً لكن مع تطور الحياة وظهور المراكز الصحية صار الناس يعتمدون على الأطباء الحكوميين، وقد افتتح في المزار أواخر الستينيات عيادة صحية في أول القرية من الجهة الشمالية كان من أهم العاملين فيها المرحوم أبو زياد عوض بن عبد النوايسة – رحمه الله- وهو من اعمامنا وأبن عم المجابري أبو فرحان، شخصية ذكيه ونابه وصاحب روح ساخرة كان هو الممرض والصيدلي والطبيب أحيانا وموضع ثقة كبار السن ومستشارهم الآمين من الناحية الطبية وقد تفتحت عيني عليه وأنا طفل في متجر والدي وهو يعبر سوقنا القديم متجها لعمله مبتسماً والناس تستوقفه لشرح أوجاعهم وامراضهم يمازحهم وهو يسجل على ورقه ثم يعود في نهاية اليوم وقد أحضر لكل موجوع مغلف ابيض فيه الدواء في طقس يتكرر يوميا... أبو زياد كان بالإضافة لعمله في "الصحيه" كما كنا نسميها مزارع مهم وله بستان فيه من اطيب أنواع الفواكه واللوز والمشمش ولعل عمله في مجتمع طبي عزز لديه أيمان مطلقاً بالتعليم وأهميته فساهم في منح المزار أول ترتيب في أوائل المملكة في الثانوية العامة في العلمي عندما حصل ابنه إبراهيم على معدل 98.8 في عام 1977 ومن مدرسة حكومية بائسة في قرية منسية ليصبح لاحقاً من اشهر أطباء العيون في الأردن والمنطقة وبعدها بعام حصلت أبنته التربوية المعروفة الدكتورة صباح على ترتيب متقدم من أوائل المملكة في الثانوية العامة ... المزار كانت قدمت أطباء مهمين أيضاً قبل ذلك منهم عمي الدكتور إسماعيل الذي درس الطب في النمسا واختص بالباطنية في المانيا ومعالي الدكتور مصلح الطراونة الأستاذ الدكتور المبرز في الباثولوجي والطب المخبري والمرحوم سعود الطراونة أشهر طبيب نسائية في السبعينيات في الكرك ولاحقا عاش في أمريكا... في القرى جدول انساني لا ينضب من الحكايات وصور اجتماعية بسيطة لكنها تحمل دلالات عميقه، بساطة الناس وبحثهم عن الحياة بطريقتهم بعيد عن تكلف المدينة واستعلائها الباذخ اتابع اهتمام أصدقائي بأطفالهم ومراقبتهم في مدارسهم عبر كاميرا الهاتف والاهتمام بنوعية الغذاء والسندويشات المدروسة غذائيا من ناحية ادق التفاصيل وأتابع المفاوضات بين الأهالي على ساعة محددة للخروج للعب والمفاوضات التي تستمر أسبوعين وأكثر وربما يتم استدعاء السيرة الذاتية ويجتمع الاهل في فندق خمس نجوم وأستذكر دائما طفولتنا وطفولة صديقي أبو خالد عاطف مبرك عندما تركه الاهل وهو ابن الخمس سنوات ليتابع أمور الأغنام والدجاج لانهم غادروا لموسم الحصاد ومع ذلك يمارس حياته وحيداً ويدلي بشهادة في قضية امام المحكمة ويقوم بزيارة الكرك ويشارك مع المواطنين باستقبال اللك حسين رحمه الله دون ان يلتهم أي حبة كندر او تويكس او مارس ودون ان يتعرف على البلاستيشن... بفعل هذا الاهتمام المفرط زادت حالات التوحد وأنحصر الذكاء الاجتماعي الذي يستمد من الشوارع والحارات ومخالطة الأطفال حتى لو اتسخت ثيابهم بالطين والشحبار ولا يستمد ابدا من الكندر والبرلينغز وأعياد الميلاد في الصالات والفنادق الباذخة... اعطونا الطفولة لو سمحتم بأثر رجعي...