+
أأ
-

حميدتي وشبح الخليفة

{title}
بلكي الإخباري

أ.د.حمدي عبدالرحمن/ مختص بالشؤون الأفريقية





تعكس قصة صعود الجنرال حميدتي أزمة النخبة الحاكمة واستعصاء بناء الدولة الوطنية في السودان. كان جده دقللو زعيم عشيرة عربية تمتهن الرعي في كل من تشاد ودارفور. لم يتلقى محمد حمدان أي تعليم رسمي وعمل في تجارة الجمال ولكن برز نجمه عام 2003 أثناء حربه مع ميليشيات الجنجويد التي عولت عليها حكومة البشير في محاربة حركات التمرد. كانت استراتيجية الإسلاميين هي ضرب الميليشيات بعضها ببعض والحفاظ على الجيش الوطني الذي يعتمد سلك الضباط فيه على النخبة النهرية ( الجعلية والشايقيه والدناقل) .
كانت عين البشير على حميدتي فقربه إليه ومنحه لقب فريق أول رغم أنه لم يتخرج قط من أي أكاديمية حربية. طبعا التبرير الرسمي الذي قدمه نظام الإنقاذ في ذلك الوقت هو كفاءة حميدتي كقائد في لواء الجنجويد في جنوب دارفور في ذروة حرب 2003-2005.
في عام 2013 أصدر الرئيس البشير مرسومًا رئاسيًا بتسمية تلك المليشيات القبلية بقوات الدعم السريع، كما أوكل تبعيتها لجهاز الأمن والمخابرات الوطني. وفي عام 2017، أُجيز قانون قوات الدعم السريع من البرلمان، وبموجب ذلك أضحت قوات الدعم السريع قوات عسكرية حكومية، تدين بالولاء إلى القائد الأعلى للقوات المسلَّحة أي رئيس الجمهورية ، وليس إلى وزير الدفاع المنوط به الإشراف على القوات المسلحة .
حميدتي يبتلع الدولة
وفقا لتحليل أليكس دي وال المتخصص في شئون السودان والقرن الأفريقي بانتقال حميدتي إلى المركز في الخرطوم فقد تمكن تدريجيا من ابتلاع الدولة ووضعها في جيبه. استخدم حميدتي ببراعة فطنته التجارية وبراعته العسكرية لبناء ميليشياته لتصبح أقوى من الدولة السودانية الآخذة في الضعف. مع وجود أسطول من الشاحنات الصغيرة الجديدة المزودة بمدافع رشاشة ثقيلة ، سرعان ما أصبحت قوة الدعم السريع لا يستهان بها ، حيث خاضت معركة رئيسية ضد المتمردين الدارفوريين في أبريل 2015.وفي نوفمبر 2017 ، سيطرت قوات حميدتي على مناجم الذهب في جبل عامر بدارفور - أكبر مصدر لعائدات التصدير في السودان. جاء ذلك في أعقاب هزيمة واستيلاء خصمه اللدود الشيخ موسى هلال ، الذي تمرد على البشير.
من ناحية أخرى ، مع الانتشار الروتيني للقوات شبه العسكرية للقيام بالقتال الفعلي في حروب السودان في الداخل والخارج ، أصبح الجيش السوداني أقرب إلى مشروع تجاري واستثماري. لقد امتلك جنرالات الجيش العقارات الباهظة في الخرطوم في نفس الوقت الذى دخلت فيه القطاع الأمني قوات أخرى ، بما في ذلك الوحدات التشغيلية لجهاز الأمن والمخابرات الوطني ، والقوات شبه العسكرية مثل وحدات الشرطة الخاصة - وقوات الدعم السريع.
حميدتي ومشروع الرئاسة
لم يخف الرجل طموحاته قط في الوصول إلى مركز السلطة في الخرطوم والانقلاب على تقاليد المؤسسة النهرية.إذ لم يحكم السودان على مدى اكثر من قرن أي حاكم من مناطق الهامش باستثناء فترة الخليفة عبدالله التعايشي التي أصابت أهل السودان بالهلع والفزع . فالرجل بعث رسائل إلى خديوي مصر والملكة فيكتوريا ومنليك امبراطور الحبشة يدعوهم إلى المهدية. إن ظهور حميدتي ومناوراته السياسية بتحالفه مع البرهان ثم إنهاء زواج المصلحة معه بعد الاتفاق الاطاري في ديسمبر 2022 وتقديم نفسه عن أنه المدافع عن الديموقراطية ونصير الحكم المدني حتى أنه منح لقب رجل الديموقراطية لعام 2022 من قبل مفوضية حقوق الانسان السودانية . ربما يعكس صعود حميدتي في أحد جوانبه إشكالية مناطق الهامش في السودان وتمردا على تقاليد المؤسسة النهرية الراسخة ، ولكن في جانب آخر يمثل هاجس الخليفة التعايشي بقسوته بالنسبة لأهل الخرطوم . إن ما تشهده العاصمة المثلثة اليوم يذكرنا بما شهدته مدن دارفور منذ نحو عشرين عاما خلت.
إن ما تحتاجه السودان هو عقد اجتماعي جديد يؤسس لهوية وطنية جامعة تبتعد عن مفاهيم الإقصاء القائمة على الدين والعرق وتؤكد على مبادئ المواطنة المتساوية وأن الوطن للجميع. ولو أن النخبة الحاكمة منذ الاستقلال نجحت في ذلك المسعى لما شهدنا انفراط عقد الدولة بانفصال الجنوب أو ما نشهده من اقتتال عسكري اليوم. حفظ الله السودان من كل سوء.