ضرار البستنجي يكتب عن الصمت الرسمي في قضية النائب "عماد العدوان".

لأكثر من عشرة أيام يستمر غياب روايةٍ رسمية حول ملابسات وحقائق قضية النائب عماد العدوان الموقوف لدى كيان الاحتلال بمزاعم ضبط كميات كبيرة من الأسلحة والذهب في سيارته الخاصة لدى وصوله "معبر الملك حسين" متوجهاً إلى فلسطين المحتلة يوم الأحد 23 نيسان الفائت. الحكومة علّقت على الحدث مرتين فقط ؛ الأولى خلال ساعات من انتشار الخبر ، حيث صرّح (مصدر حكومي) لوسائل الإعلام المحلية (بأن الحكومة تبلغت رسمياً باعتقال نائب أردني … وأنه سيتم عمل كل ماهو ممكن لمعرفة تفاصيل الحادثة وسبل مساعدة النائب الموقوف والإفراج عنه في أسرع وقت ممكن )
وهو تصريح يشير بوضوح إلى الإدراك الرسمي أن التعامل لن يكون يسيراً مع الملف الذي سيغادر سريعاً مساره القضائي وبتخذ منحىً سياسياً محرجاً في ظرفٍ تعيش فيه العلاقة الرسمية مع الكيان واحدة من أسوأ مراحلها على الإطلاق مايؤكد المؤكد لجهة أن حكومة "نتنياهو" ستذهب بعيداً في استغلال الحدث وممارسة الضغط على الجانب الأردني و/أو استغلال الضغط الواقع عليه أصلاً.
التصريح الثاني جاء تعليقاً على زيارة السفير الأردني في الكيان للنائب العدوان بعد يومين من توقيفه حيث جاء على لسان الناطق باسم وزارة الخارجية في بيان رسمي (أنّ السفير الأردني قد تحدث مع النائب العدوان بشكل مفصّل عن ظروف توقيفه وإجراءات التحقيق معه، وتأكد منه أن ظروف توقيفه تحترم حقوقه القانونية والإنسانية، وأن النائب أكد للسفير أنّه بصحة جيدة، وأنّه لا يتعرض لأي ممارسات مسيئة جسدياً أو نفسياً، وطلب النائب من السفير طمأنة أسرته أنّ صحته على ما يرام )
التصريح جاء مخيباً ، فالجو العام في البلاد محتقن والشارع ينتظر تحركاً رسمياً يؤتي أُكله سريعاً ويريد إجابات على أسئلة كثيرة ، وذوو النائب - الذين تداعوا فور انتشار الخبر وأصدروا بياناً متزناً تضمن مواقف وطنية عميقة وتذكيراً بصلف العدو في تعامله مع أحداث سابقة تندرج ضمن ذات السياق تقريباً ، ومطالبةً للحكومة ببذل كل الجهد لاستعادة ابنهم النائب - ينتظرون نهايةً سعيدةً سريعة لمحنة ابنهم وروايةً رسمية تشرح تفاصيل ماحصل ، أقلّه على لسان النائب الذي لاشك قد روى حقيقة ماحصل على مسامع السفير .
ردود الفعل المتوازنة التي انتهجتها عشيرة "العدوان" كما عموم الأردنيين لاتنبع من عجز عن التعبير أو استخفاف بحساسية الحدث وتشابكاته، بل انطلقت من وعي عميق لطبيعة الظرف وحساسية التعامل معه ومن إدراك لتفاعلاته التي ستتخذ شكل المكاسرة مع الكيان وصولاً إلى صيغة تفاهم او ربما صفقة لايريد أحد أن تكون الدولة فيها تحت ضغط كبير يستغله العدو في رفع سقف شروطه ، كما أن أحداً لايريد أن تؤثر ردود الفعل على مصير النائب الأسير ، أي أن الأردنيين وفي مقدمتهم عشيرة "العدوان" العريقة قد أثبتوا مرة أخرى وعياً وطنياً شكّل لعقود صمام الأمان في حماية الوطن والدفاع عنه، مايعني أن على الحكومة أن تقابل ذلك بحرص أكبر على إنجاز الملف بما يضمن عودة النائب سالماً اليوم قبل الغد، وأن تسارع إلى تقديم الرواية الحقيقية لما حصل وأن تمارس كل الجهد لضمان عدم تقديم تنازلات او الرضوخ لشروط العدو ، أقلّه عملاً بالمثل في استحقاقات مشابهة اتخذت منحىً سياسياً رغم طابعها الجنائي او القضائي.
فالأردنيون لايغيب عنهم ، بل ويستذكرون اليوم بشكل واسع ، مآلات قضية الحارس في سفارة العدو (زيف حاي موردخاي) الذي قتل المواطنَين الشهيدين "بشار الحمارنة ومحمد الجواودة" صيف العام 2017 إثر تلاسن تحوّل الى مشادة أطلق على إثرها النار عليهما ، حينها ورغم الاحتقان الشعبي والمطالبات بمحاكمة القاتل سمح للقاتل بالمعادرة إلى كيان الاحتلال صبيحة اليوم التالي حيث استقبل كبطل في مشهد مهين أريد منه استفزاز الأردنيين والإمعان في إحراج الجانب الرسمي ، ولا يذكر الأردنيون أي مقابل سياسي دفعه الكيان باستثناء الحديث عن اعتذار رسمي والتزام بدفع "الديّة" ، رغم الحديث الرسمي عن (تأكد الحكومة من إحقاق العدالة في القضية) ودون تقديم أية تفاصيل ، تماماً كما لايغيب عن الأردنيين أنهم لم يروا حتى اليوم نتائج التحقيق المفترض مع الجندي الصهيوني الذي أطلق النار على القاضي الأردني الشهيد (رائد زعيتر) قبل نحو عشرة أعوام على "معبر الملك حسين"ذاته.
في ظل تفرّد الكيان بتقديم روايته لما حدث تكمن مشكلة الصمت الرسمي وغياب رواية أردنية حتى اليوم في ترك باب التأويل والاصطياد في الماء العكر مشرعاً ، وفي تنامي الشعور بأن الحقيقة قد لاتظهر يوماً ، سيما وأن الصمت الرسمي في ظل جهد دبلوماسي تشترك فيه حكومات أخرى قد يعني أن الحكومة لم تعتمد بعد الرواية التي تخدم أو تتواءم مع شكل الاتفاق - الصفقة التي يجري التفاوض عليها خلف الأبواب المغلقة ، وهو سلاح ذو حدّين ، تماماً كما يعطي هذا الصمت فرصة أكبر للعدو لتعزيز روايته التي لايكاد يصدقها أحد رغم الرغبة الشعبية الضمنية بأن تكون صحيحة،
فالأردنيون ولاشك يفخرون بأي جهدٍ في اتجاه تقديم اي شكل من الدعم للأشقاء الفلسطينيين يساهم في مقاومتهم المحتل ، لكن حقائق الواقع في قضية النائب العدوان تفضي إلى غير ذلك ، دون انتقاص من مواقف النائب الوطنية المشهودة في الدفاع عن فلسطين وتأييد مقاومة العدو.
ففي رواية الكيان الكثير من الثغرات ، جميعنا يعلم أنه من شبه المستحيل تمرير السلاح عبر المعبر الرسمي الخاضع لتفتيش دقيق يشمل التفتيش بالأشعة ، مابالكم بهذه الكميات الكبيرة من السلاح والذهب التي يصح التشكيك في إمكانية نقلها في سيارة شخصية ، علاوةً عن على إخفائها، تماماً كما إدراك صعوبة التنقل بها في الداخل المحتل ومصاعب تسليمها إلى الجهة التي يفترض انها متوجهة إليها، في الوقت الذي نعرف جميعاً أن الحصول على أسلحة فردية داخل فلسطين المحتلة ليس بالصعوبة البالغة إن توفرت الإمكانيات المالية ؛ فالصهاينة أنفسهم يبيعون السلاح لمن يدفع ، كل ذلك يعني أن غاية الرواية الصهيونية المشكوك فيها وسلوكه في التعامل مع الحدث هي إحراج الدولة والأردنيين في أكثر من اتجاه ، فمنع النشر واعتماد الإجراءات والمخاطبات السرية ومنع لقاء فريق الدفاع بالنائب المعتقل وتصعيد بعض الأطراف (الرسمية الصهيونية!) للتوجيه نحو محاكمته هناك تُشعر الأردنيين بأن هناك عجزاً رسمياً عن إحداث أي اختراق في الملف، حد العجز عن مواكبة التحقيقات ربما، سيما وأن الحكومة الأردنية قد تعاملت مع الجانب الصهيوني في الأحداث السابقة التي تندرج تحت ذات الباب بشكل مختلف تماماً عن هذا الصلف والاستعلاء ، كما يحرج تصريح الكيان بأن سيارات النواب الأردنيين لاتخضع للتفتيش عادةً وأن مادفع إلى تفتيش سيارة النائب العدوان هذه المرة هو معلومات مسبقة حصل عليها "جهاز الجمرك" الحكومة الأردنية، فقد يعني بين سطوره ، فيما يعنيه، أن جهاز الأمن الأردني المعني بضبط المعبر غافل او متورط ، تماماً كما يعطي فرصة للمصطادين في الماء العكر باتهام النائب بالتهريب لأغراض التهريب والكسب ، لاسيما حين يوضع الحدث ضمن سياق جهاز الجمارك لا في سياق الأجهزة الأمنية والاستخبارية مثلاً ، خاصةً حين يرد أن من بين المضبوطات كمية هائلة من الذهب، ناهيكم عن حرج الأردنيين أصلاً - بفعل خشيتهم على سلامة النائب العدوان وحرصهم على استعادته - من التعبير عن التضامن المطلق معه وفق النمط الشعبي التحشيدي المدوي المعتاد الذي كان ليخلق أجواء تعاظم الاهتمام في القضية الفلسطينية وتمجيد المقاومة وتعزيز العداء للكيان والتذكير بمخططاته ومخاطره.
وإذا ما اضفنا إلى ذلك كله تزايد حديث العدو ، والمشكوك في صحته، منذ نحو عام عن ضبط عمليات تهريب أسلحة فردية من الجانب الأردني أو إحباط محاولات لتهريبه قد نجد أنفسنا أمام رواية محبوكة بإحكام هي أقرب إلى الفخ غايتها وضع الأردن الرسمي في مأزق وصولاً إلى صفقة، خاصةً والأردن يتخذ مواقف أكثر حزماً في الاشتباكات السياسية المتكررة مع حكومة نتنياهو مؤخراً وينشط دبلوماسياً في ملفات لاتروق لمخططات العدو وحساباته في المنطقة ؛ مايفتح الباب على السؤال الجوهري - بمعزل عن الرواية الحقيقة أياً تكن- : ماذا يريد العدو؟ وأية صفقة ستنهي هذه الأزمة؟
تقول بعض التسريبات أن الأردن لاينوي الرضوخ لشروط حكومة نتنياهو ، المستفيد الأكبر من الحدث، وأن المقاربة الحالية ،طالما وأن الوساطات والتداخلات لم تؤتي أكلها بعد، تعتمد المناورة في الملعب القضائي مع رسالة طمأنة أردنية عن رفض رسمي مطلق لأي تهريب أياً تكن اتحاهاته وغاياته، مايعني أن الأمر قد يطول إلى مابعد الحكم على النائب العدوان قبل ان يبدأ التفاوض الذي يسعى الأردن أن لاتتجاوز حدوده سقف الاعتذار الرسمي وتسليم النائب مع الالتزام باستكمال محاكمته أو سجنه في وطنه .
ومع ذلك تظل الخشية من سقف الشروط مبررةً ، فالعدو الذي يدرك أن الحكومة لن تستطيع ترك النائب يحاكم ويسجن في الأراضي المحتلة لايمكن أن تقدم تنازلات كبرى من نوع السكوت على ممارسات الكيان تجاه الفلسطينيين والمقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس بالذات ، وبما يضرّ بالورقة الأقوى في جعبة الأردن اليوم ؛ الوصاية الهاشمية وهي التي تحظى بدعم واعتراف عربي ودولي، أو من نوع التراجع عن مساعي الانفتاح على كل الأطراف في المنطقة استفادةً من أجواء التسويات والتهدئة ، لاسيما الانفتاح الملحوظ على العراق والتقارب مع سورية في ضوء المبادرة المهمة التي قدّمها الأردن مؤخراً في إطار السعي لإيجاد حل سياسي للأزمة وتداعياتها! تحت سقف البيت العربي ، ناهيكم عن الإشارات الإيجابية حول علاقة أفضل مع إيران ، وإن كانت تسير وفق حسابات دقيقة معقّدة.
هل يريد الكيان إذاً ثمناً على مستوى ملفات الداخل الفلسطيني ؟
قد يبني العدو مقاربته للصفقة على وقع علاقة الأردن المميزة بالسلطة الفلسطينية وبوادر ذوبان الجليد في العلاقة مع فصائل المقاومة في غزة ، مايعني أن ضغوطاً قد تمارس على الأردن في إطار سلوك وتعاون وربما شكل السلطة الفلسطينية التي تعيش مرحلة مفصلية حرجة ، سيما وقد بدأت مجدداً الدعوات لاستئناف المفاوضات الفلسطينية الصهيونية، كما يحق لنا أن نخشى طلباً صهيونياً بممارسة ضغط على المقاومة الفلسطينية في أكثر من اتجاه بما فيها ملف المقاومة المتصاعدة المنظمة في الضفة ، في نابلس وجنين بالذات، وملف الجنود الأسرى لدى " حركة حماس" في غزة .
في الخلاصة على الحكومة أن تعالج الملف بعزيمة وندّية وبثقة بإمكانات الوطن وأبنائه وأوراق قوته ، فتتجنب موقع الضعيف المغلوب على أمره، ولاتقدم تنازلاتٍ أو ترضخ لشروط ، وعليها أن تدرك أن استمرار الصمت وغياب الرواية الرسمية ، بل وغياب أية تسريبات ممنهجة ، حول حقيقة ماحصل مع النائب العدوان وتطورات الحدث يفتح باب التأويلات ويفاقم الغليان الشعبي وينذر بأننا لن نعرف الحقيقة يوماً وأن الرواية الرسمية ستقف عند حدود مايخدم الصيغة النهائية للاتفاق - الصفقة بما لذلك وماعليه ، ماينذر بأننا أقرب إلى هزيمة نفسية ما أياً تكن النهايات، والصمت يوحي بأن رواية الكيان صحيحة أو أن إثبات زيفها صعب المنال ،ولو عبر الاتكاء على نفي النائب لها برمتها، سيما وأن العدو قادرٌ على العبث بكل الأدلة وتقديم مسرح أحداث ينسجم مع روايته ، والتجارب في ذلك كثيرة. وإلى أن يبلغ الأمر منتهاه ستظل قلوب الأردنيين مع ابنهم الأسير وسيظل وعيهم الوطني أعمق من أن يستخدِم أيٌ كان هذا الحدث في أية إساءة او تشويه أو أن ينجح في العبث بإيمانهم بوطنهم وبقضيتهم المركزية ، قضية فلسطين، وسيظل كيان الاحتلال في نظر الأردنيين عدواً وجودياً إلى أن يزول.



















