سامح المحاريق يكتب : دعوات التظاهر في الأغوار.. الحق في التعبير والظروف المناسبة

اصطحبت قبل عامين الروائي المصري الصديق شادي لويس إلى منطقة المغطس، كانت زوجتي ترافقنا في الزيارة، وتلاسنت مع مجندات إسرائيليات على الجانب الآخر، تقدم الجندي الأردني ليكون محاذياً لزوجتي، في عينه لمحت تعاطفاً، بل وتأييداً لما تقوله زوجتي، هدأت زوجتي المنفعلة التي يحز في نفسها أنها لم تتمكن من زيارة فلسطين في حياتها، ولم يحدث أي تدخل لاحق، شكرت الجندي لدى مغادرتنا لاتخاذه وضع التأهب الكامل.استدعيت هذه القصة في زحمة المزاودات التي تدور وتتصاعد في هذه المرحلة مع العدوان الفاجر على قطاع غزة، وحالة التعاطف المفتوح وغير المحدود على المستوى الوطني في الأردن، ومنها مظاهرة الجمعة الماضية في وسط البلد والتي يمكن وصفها بالأوسع بين جميع المظاهرات التي حدثت في الأردن خلال عقدين من الزمن.لنتجاوز بوعي ومسؤولية التعلق بالنصوص القانونية التي تعتبر التظاهر سلميا في إطار ما تسمح به التشريعات ودون مساس بالسلم المجتمعي من الأمور المشروعة ومن الحقوق المصونة، فهذا ليس مقاماً مناسباً ولست في صدد مناقشة حادثة هنا أو خلافاً هناك، والواقع الذي نعرفه جميعاً أن الدولة الأردنية تعتبر هذه المظاهرات أكثر من مشروعة، وأكثر من ضرورية، من ناحية سياسية بحتة، تتمثل في إدارة حالة من الغضب التي تتمدد بين الأردنيين بوصفهم الأقرب والأكثر معايشة للفلسطينيين وقضيتهم، ووطنياً، لأنها توصل رسالة بأن مواقف الدولة الأردنية ?يست معزولة عن الشارع الأردني بأطيافه كافة خاصة في مسألة تعتبر من الثوابت والأولويات.مع ذلك، فالمزاودة والدعوة إلى التحشيد في منطقة الأغوار وعلى مقربة من الحدود مع الكيان الغاصب تعتبر مزاودة على المواقف الرسمية وعلى معظم المنخرطين في فعاليات التظاهر على مستوى الأردن، ويقومون بأنشطتهم في مختلف المدن بصورة يومية، وبعضهم مرابط فعلياً في منطقة الرابية حسب ما تتناقله صفحاتهم على مواقع التواصل.لست قلقاً من التفاعلات التي قد تحدث، الأجهزة الأمنية الأردنية عايشت تظاهرات عديدة، وتعاملت مع الحشود مرات كثيرة، ويمكن القول بمهنية بتتبع حالات وشهادات كثيرة، وتوجد قوات درك مستعدة للتعامل مع هذه التحديات، إلا أن التساؤل حول دعوات التحشيد بهذه الطريقة والصورة التي يبحث عنها البعض، والفائدة التي سيجنيها، والمبرر الذي يجعلنا نستنزف جهود قواتنا الأمنية في مرحلة نعرف جميعاً أن كثيراً من الجنود والكوادر الأمنية لم تتحصل على إجازات منذ فترة، وأنه لا يتوجب أن تحدث مناقلات غير ضرورية من حدودنا الشمالية التي تشهد م?اطر سعى الأردن إلى التعامل معها بمختلف الاستراتيجيات في الآونة الأخيرة.المواقع الحدودية من الفضاءات السيادية الحساسة التي تقع تحت ولاية القوات المسلحة، وتحكم بمجموعة من قواعد الاشتباك للمحافظة على الأمن الداخلي، وهو الأمر المطبق في جميع دول العالم، ولا يمكن أن نغفل عن وجود قواعد اشتباك على الطرف الآخر، ويمكن لحادثة هامشية أن تتدحرج إلى التأزم غير المسبوق، والدخول في تعقيدات أخرى، يمكن أن تؤثر على دور الأردن الدبلوماسي الذي يسعى للخروج من الأزمة الحالية التي يظهر أن قطاع غزة يتحمل الحصة الأكبر منها ويدفع ثمناً غالياً على الجميع من حياة أولاده وسلامتهم.هل نبالغ في هذه المقولات؟الرئيس الأمريكي جو بايدن، يزور الأردن وإسرائيل، الأجندتان مختلفتان، وليست متوقعاً أن يطرح مع الملك عبد الله الثاني ما سيطرحه مع الجانب الإسرائيلي، والحديث في الأردن سيكون عن الوضع الإنساني في غزة، وعلى رفض متقدم لخطط التهجير، والملك لن يتحدث بصوته وحده، فالملك على تنسيق متواصل مع المصريين، وفي الساعات الأخيرة، أخذت الأخبار تتواتر عن حضور الرئيس المصري والفلسطيني للقاء بايدن في عمان، بما يعني وجود إدارة للملف من الفريق الذي يعرف الجميع أنه غير مستعد للتفاوض حول فكرة تهجير الفلسطينيين، ولا تسمح مسؤولياته الت?ريخية أن يتغاضى عن الأحوال غير الإنسانية للفلسطينيين تحت الضغط الوحشي الذي تمارسه (إسرائيل).في مصر توجد أحاديث كثيرة حول التهجير والدولة المصرية أعلنت موقفها المناهض الواضح لهذه الفكرة، ولكن ما الذي يمكن أن تفعله في حالة وجود اجتياح بري يصدر صوراً مأساوية حول الفلسطينيين، أشد المعترضين على فتح معبر رفح أمام الفلسطينيين لن يتمكنوا من الوقوف أمام نبض الشارع المصري في هذه الحالة، فالشعوب عادةً ما تتحرك ضمن منظومة انفعالية، ومعلومات غير مكتملة أو مفلترة سياسياً لمصلحة فريق ضد آخر.نحن مع الدولة في قضية من الثوابت والأصول، ولذلك، علينا أن نتعامل بهذه الصورة، فالإنتاجية السياسية هي أن تحتفظ الأردن بقدرتها على التعامل مع الأوراق الرئيسية، لا أن تتحول إلى طرف غارق في التفاصيل من أجل أن يحقق شخص استولى على الميكرفون داخل مظاهرة، أو يبحث عن مكان في المعادلة لرسملته فيما بعد في صورة مكتسبات سياسية (تحاصصية) أحياناً.نعرف ويعرف كل أردني عند التفكير ملياً، وخارج عقلية الحشود، أن الأردن يرفض جذرياً جميع ما يحدث، وأنه يوظف إمكانياته حتى حدودها القصوى تجاه الوقوف ضد مشاريع تصفية القضية على حساب الفلسطينيين والأردنيين.التظاهر السلمي مطلوب، والتغطية الإعلامية مهمة، والاشتباك اليومي على مواقع التواصل هو أضعف الإيمان شعبياً، وللأردن دوره الرئيسي في المواجهة الذي كان دائماً أكبر من قدراته الموضوعية، ومع ذلك أبت العقلية الأردنية أن تصبح مدخلاً للتسويغ والتبرير، ولكنه ليس الدور الذي يمكن أن تحدده الشهوات السياسية والانفعالات الشعبية الكبيرة.المسؤولية كبيرة والتوقيت حرج، وإذا كنت لا أستطيع تصديق الأجهزة الأمنية في الأردن في هذه اللحظة، ولا تقدير وجهات نظر القائمين على سلامة الوطن وأمنه واستقراره، وجميعهم أعرف أنهم أردنيون أكثر مني، وفلسطينيون أكثر مني، فليس علي بعد ذلك في حال تعرضي للأذى أو السرقة أن أطلب منها أن تقوم بواجبها في حمايتي.ربما يحين وقت مناسب لتوظيف انفعالتنا في وجهتها الصحيحة، ولكن ليس استجابة لكل ما يملك الشرقي من مواهب الخطابة، بالعنتريات التي ما قتلت ذبابة، كما تحدث نزار قباني، ذات يوم يبدو أنه يتكرر وليس يشارف على النهاية.ــ الراي



















