محمد خروب : نعم.. «غزّة ستُولد من جديد» (2 ــ 2)

استكمالاً لمقالة أمس.. يُواصل «فاسيلي زايتسيف» المؤرخ والكاتب الصحفي الروسي, الإضاءة.. في دقة تاريخية لافتة لما تعرّضت له غزة, من غزوات وحروب ودمار في حِقب تاريخية مُتعددة.. قديمة ومتوسطة, أحدثها الغزوة الصهيونية قبل 75 عاماً لفلسطين التاريخية, لكنها/غزة استطاعت الصمود والبقاء, عندما يصِل بنا إلى غزة في عهد الإسكندر الأكبر, قائلاً تحت عنوان «العِقاب على طريقة أخيل": كان مصير سكان المدينة الأكثر مأساوية في عهد الإسكندر الأكبر. كان الطريق الذي سلكه الملك المقدوني لغزو القوة الأخمينية الفارسية, يمتد من الأناض?ل إلى مصر، وكانت غزة في الطريق. كانت المدينة هي العقبة الأخيرة في الطريق إلى دلتا النيل، وبالتالي فإن «باتيس»، الذي يخدِم «داريوس الثالث»، حشدَ جيشاً كبيراً فيها، استعداداً للحصار. وترتفع غزة عن المنطقة المحيطة بها بحوالي 18 متراً، مما يجعلها حصناً جيداً.في «أكتوبر» 332 ق.م. بدأ الحصار. قام المهاجمون ببناء سور، لأن أسوار المدينة كانت على تلّة، وحاولوا وضع منجنيق عليها. بالإضافة إلى ذلك، حاولوا الحفر تحت الجدران حتى ينهار البناء الهش. كان المُدافعون ناجحين في البداية: فقد أطلقوا مقذوفاتهم لتدمير مُعدات الحصار المقدونية وتمكنوا من إصابة الإسكندر, عندما شنّ شخصياً هجوماً مُضاداً مع مفرزة من الحراس الشخصيين.ومع ذلك، يُضيف المؤرخ الروسي وفق ترجمة الدكتور زياد الزبيدي.. «لم يكن من الممكن أن يستمر هذا لفترة طويلة إذ قبل غزة اقتحمت القوات المقدونية قلعة «صور» المنيعة، الواقعة على جزيرة ساحلية في جنوب لبنان الحديث. وبعد مرور بعض الوقت، انتقلت أسلحة الحصار من صور إلى غزة، ونتيجة لذلك انهارت الجدران في عدة أماكن. وفي المحاولة الرابعة دخلت القوات المدينة وبدأت في السيطرة. وقاتلَ سكان غزة بقوة، وساعدهم «المتطوعون العرب» (..). وهناك حادثة شهيرة حيث تظاهر أحدهم بالاستسلام وتم نقله إلى المعسكر. وهناك اندفع العربي نحو الم?ك، لكنه لم يتمكن إلا من إصابته بجروح طفيفة قبل أن يتم قتله.المدافعون - تابعَ زايتسيف - لم يستسلموا، فمات في المعركة نحو 10 آلاف جندي منهم. بعد المعركة، رفض باتيس الركوع أمام الإسكندر، وفي ثورة غضبه أمر بإعدام «باتيس» بوحشية. تم ربط حبل من خلال كعبيه وربطه بعربة وسحبه حول المدينة حتى مات باتيس. وكان هذا تقليداً للبطل «أخيل» الذي تعامل مع عدوه «هيكتور» بهذه الطريقة.
الإسكندر «لفتَ كاتبنا».. يُعاقِب بشدة على المقاومة. قُتل رجال غزة، وبيعت النساء والأطفال كعبيد، وسكن المدن البدو المُتعاطفين مع الإسكندر. وفي وقت لاحق، أصبحت غزة مدينة وأحد مراكز الثقافة اليونانية.ثم تقع غزة في دورة أخرى من «الدمار والبعث», على النحو التالي: لقد بدأ «الإسكندر الأكبر تقليداً سيئاً، وغزة تُعاني بانتظام منذ ذلك الحين. أولاً، سقطتْ في حجر رحى الصراع بين سلالة البطالمة المصرية (ورثة الإسكندر) ويهودا، التي خاضت معركة مميتة مع الحضارة اليونانية الوثنية بأكملها وأعلنتْ عبادة الرب. في عام 96 قبل الميلاد ـ يستطرِد مؤرخنا ــ حاصرَ الملك اليهودي ألكسندر ياناي غزة، المُتحالفة مع البطالمة، واستولى عليها في غضون عام. دُمرت المدينة وقُتلَ سكانها (مَن لم يَهرب منها).لكن غزة إنتعشت مرة أخرى بعد نصف قرن، عندما أصبحت المنطقة جزءاً من الإمبراطورية الرومانية في عام 63 قبل الميلاد. بدأ عصر الهدوء النسبي، وفي القرن الأول الميلادي تزايد دور المدينة بسبب تدمير الرومان لـِ«القدس». أصبحت غزة مرة أخرى، كما في العصور القديمة، غنية وتاجرتْ مع الجزيرة العربية. وكانت المدينة مفضلة لدى السلطات الرومانية والإمبراطور «هادريان»، حيث بُنيَ في عهده أشهر ملعب في الشرق كله، وأقيمت فيها مسابقات المصارعة والخطابة.بظهور الإسلام في القرن السابع أَوصلنا «المُؤرخ الروسي» إلى مرحلة جديدة, إذ إعتنقه العديد من سكان غزة تحت الحكم البيزنطي، قبل الفتح العربي. وفي عام 634 حاصرَ المدينة جيش الخلافة بقيادة عمرو بن العاص/صحابي النبي محمد صلى الله عليه وسلم. ومن المثير للاهتمام أن الجالية «اليهودية» في ذلك الوقت كانت تقاتل إلى جانب البيزنطيين، على عكس السكان العرب والمسلمين. وفي النهاية، بعد ثلاث سنوات من الحصار، تم الاستيلاء على المدينة، لكن إبن العاص تجنّب المذبحة أو تدمير المدينة. وعلى مدار القرنين التاليين «أضافَ زايتسيف»، ظل?ت غزة مدينة مزدهرة نسبياً: ففي عام 867، وصف أحد الكتاب المسيحيين المدينة بأنها «غنية بكل شيء». ومع ذلك، مع وصول الصليبيين عام 1100، كانت المدينة في حالة تدهور لأسباب اقتصادية، وحاول فرسان الهيكل استخدام تل غزة كحصن. تم إحياء المدينة لفترة من الوقت.ماذا عن الحروب الصليبية وصلاح الدين الايوبي؟سرعان ما تم تدميرها عملياً مرة أخرى على يد صلاح الدين، زعيم العالم الإسلامي في الحرب ضد الممالك الصليبية. نظراً لعدم قدرته على الاستيلاء على القلعة الموجودة على التل، قام ببساطة بإحراق المدينة المحيطة بها وقتل العديد من السكان. وبعد سنوات قليلة تم تسليم المدينة والقلعة للمسلمين, مقابل إطلاق سراح كبير الفرسان. ورغم الخسائر, استمرت المدينة في الحياة حتى اقترب «هولاكو»/حفيد جنكيز خان من أسوارها عام 1260. تم تدمير المدينة من أساسها، وفي العقود التالية كانت موجودة فقط كـ«قرية صغيرة».ماذا بعد؟حاول الحكام «المصريون» استعادتها، لكن في عام 1294 دمّر المغول غزة مرة أخرى.وجاءت الذروة التالية للمدينة تحت الحكم العثماني، عندما أصبحت غزة «عاصمة فلسطين». قام العثمانيون بترميم الجامع الكبير (الذي تضرر الآن بسبب القصف الصهيوني), وقاموا ببناء العديد من الحمامات والأسواق. واستمر الأمر نفسه في ظل الحكم المصري في القرن التاسع عشر.في الختام.. يَصِف مؤرخنا ما يجري الآن بأنه «آخر جولة من الدمار».. مُضيفا: في أي لحظة الآن قد يشن الجيش الإسرائيلي, هجوماً واسع النطاق على غزة بهدف «تدمير حركة حماس»، ويخشى المجتمع الدولي على مصير المدينة القديمة. والآن هناك نقطة «تحوّل جديدة في التاريخ»، حيث من غير المعروف ما إذا كانت غزة ستُولد من جديد.ومع ذلك، أودُ أن أعتقد ذلك.ــ الرايkharroub@jpf.com.jo



















