أ.د بثينة شعبان : رسالة

وصلتني رسالة من أطباء عرب في المغترب مازالوا يحملون بلدانهم ولغتهم وثقافتهم في شغاف قلوبهم ويعيشون آلام وآمال أمّتهم ويبذلون جهدهم كي يكونوا فاعلين في تحسين مسارها ومصيرها. في هذه الرسالة عبّروا عن آلامهم لمشاهدة أكبر عدوان آثم وأقسى وحشية يمارسها إنسان ضد إخوة له في الإنسانية ممّا أقنعهم أن الإنسان لم يحرز أي تقدم خلال ستة آلاف سنة ماضية وأن التاريخ كلّه يدور حول أناس يقتلون أناساً لا يعرفونهم. وأضافوا وهذه هي نقطة مهمة: «لا نعلم كم من الساعات والأيام والأشهر أمضينا لإنقاذ إنسان واحد يعاني من أمراض وها هو هذا العدوان وآلة القتل العرقية التطهيرية تقتل آلافاً من الأطفال والنساء والرجال الأصحاء الأبرياء وتبعثر الجرحى هنا وهناك وتهدم المستشفيات بعد أن تدمّر أجهزة إنقاذ البشر والمطبخ الذي يطعمهم كي يموتوا من المرض والجوع والعطش بعد حرمانهم من الدواء والمعالجة»، وأضافوا: «إن منظر مقتل آلاف الأطفال في غزة وآلاف النساء هو أكبر عارٍ تتحمّله البشرية برمّتها في القرن الواحد والعشرين».
لقد كانت مواقف الطواقم الطبية من الأطباء الفلسطينيين في مشافي غزة والتي توافدت إليها أيضاً بعد الحرب عليها لتساعد في إنقاذ حياة البشر غاية في النبل والإنسانية؛ فرغم تهديدات الصهاينة باستهداف المستشفيات ، والتي أصبحت أيضاً ملاذاً لآلاف الأطفال والنساء بعد تدمير منازلهم، لم يغادر أحد من هؤلاء الكوادر من أطباء وممرضين مشافيهم وقضوا كل الوقت يداوون جرحاهم وأعلنوا مراراً أنهم لن يتركوا جرحاهم لخطر الموت بحثاً عن ملاذ آمن لأنفسهم، وفي هذا الموقف عصارة إنسانية تعيد لنا الثقة بإنسانية الإنسان المعاصر بعد أن كاد هؤلاء المعتدون المتوحشون المشبعون بالعنصرية والأحقاد المتوارثة من اضطهاد المجتمعات الغربية لهم طوال القرون الماضية، يفقدوننا الثقة بإنسانية الإنسان المعاصر وقدرته على الشعور بأخيه الإنسان والتعاطف معه. لقد وصل حدّ الجريمة أن المعتدين الصهاينة اعتقلوا عدداً من الكوادر الطبية كما استشهد ما يفوق مئتي طبيب وممرّض، حيث أصبحت مشافي غزة ميداناً للعدوان والتنكيل بالجرحى والطواقم الطبية وأهليهم والقادمين للمساعدة في إنقاذ حياتهم. وهذه هي المرة الأولى التي يتذكر فيها أي إنسان من الشرق أو الغرب تحويل المراكز الطبية إلى أهداف لحرب إبادة وتطهير عرقي يذكرنا بالقرون الوسطى والحروب الاستيطانية للاستعمار الغربي ، الأمر الذي يتنافى مع كل الأخلاق والأعراف والقوانين الدولية التي يلتزم بها الجميع خلال الحروب.
كان المتحاربون في الحرب العالمية الثانية يضعون صليباً كبيراً على أسطح المشافي كي يعرف الطيران المهاجم أن هذا الهدف لا يمكن قصفه. والأكثر من ذلك أن منظمات الأمم المتحدة المعنية والمتخصصة قد التزمت الصمت حيال اعتقال وقتل الكوادر الطبية وتدمير المستشفيات والمدارس والكنائس والمساجد وكأنها قواعد عسكرية. وطبعاً انحازت وسائل الإعلام الغربية كلها مع المعتدين ودافعت بوقاحة عن حق الأبارتيد بالإبادة العرقية للمدنيين الفلسطينيين، ما أكد أن هذه الوسائل الإعلامية الغربية مجرد أبواق دعائية للأنظمة القمعية الاستعمارية العنصرية.
من ناحية أخرى فقد كان لنبل هذه الكوادر الطبية الفلسطينية وصمودها في المساعدة رغم خطر الموت أبلغ الأثر في إيصال الرواية الحقيقية إلى العالم وسط حملة تضليل وكذب وافتراء قام بها العدو عبر وسائل الإعلام الغربية وحكوماتها؛ بالافتراء أن المشافي إمّا تقوم بإيواء مسلحين أو بتخزين أسلحة. علّ العالم الغربي اليوم والذي تتجاذبه أكاذيب الصهاينة المعتدين بالإضافة إلى فقره المعرفي بالعرب والمسلمين، حيث إنه استمدّ معظم مفاهيمه عن العرب والمسلمين



















