+
أأ
-

النسويّة العربيّة وموقعها الفكري

{title}
بلكي الإخباري

بقلم : ناديا هناوي - كاتبة وأكاديمية - العراق





الغالب على المجتمعات البشرية أنها ذكورية يهيمن فيها الرجل بشكل أحادي. وأشكال الهيمنة متعددة ومنها الهيمنة الفكرية التي فيها يتحدد فعل التفكير في الرجل. وإذا حصل وكان للمرأة تفكيرها الواعي؛ فإن ذلك يقتضي منها اعتمالا ذهنيا ذا مجهود بنائي هو أضعاف ما لدى الرجل من مجهود في تشكيل تفكيره والوعي به. والسبب هو التكميم والمنع اللذان يحتاجان من المرأة إلى مزيد من الدينامية العقلية كي تتمكن من نفض التهميش عن فكرها بأشكاله المتعددة.





ومهما يكن من تنوع الفكر والوعي به؛ فإنه يظل في العموم واحدا بوصفه الفاعلية الذهنية التي ينجزها العقل والحالة الفيزيولوجية النفسية التي تنطوي على قصدية ذاتية. فإذا خصصنا الفكر بالوعي النسوي فمعنى ذلك أننا نغلِّب عنصرا ليست له الغلبة ونمركزه على حساب عنصر ينبغي أن تكون له الأولوية وأعني به الرجل. وعلى الرغم من أن التكافؤ العقلي بين المرأة والرجل في عمليتي التفكير والوعي تؤكدها الدراسات الفسيولوجية؛ فإن جدلية المركز /الهامش تظل هي الفاعلة وما يثقلها من تأثيرات نفسية مستحكمة. ويترتب على ذلك أن يتكبد الفكر النسوي مشقة الحضور بموازاة الفكر الذكوري أولا ثم توكيد حقيقة وعي المرأة بفكرها أمام الرجل آخرا.





وإذا كان متاحا لنا أن نفترض أن في اللوغوس الغربي فكرا نسويا ووعيا بهذا الفكر أيضا، فهل يمكننا أن نفترض أن في المنظومة الفحولية العربية فكرا نسويا نستدل عليه بوعي نسوي أيضا؟ وما بواكير هذا الفكر ومحطاته؟ وكيف كانت بوادر هذا الوعي بالفكر النسوي أهي جندرية خالصة أم هي قومية أم إنسانية؟ وما مكونات أو مقومات الوعي بالفكر النسوي؟ وما الإمكانيات والمقتضيات التي استوجبت من النسوية العربية امتلاك الفكر الواعي؟ أهي إمكانيات فردية أم جماعية أم الاثنتان معا؟ وهل يمكن نمذجة الفكر النسوي العربي؟ وما أشكال هذه النمذجة إن وجدت؟





لا شك أن الحديث عن تأسيس فكر نسوي يخترق ترسانة الفكر الذكوري أو يقف في مصافه يظل أمرا محتمل التحقق من ناحية التأمل الدقيق والعميق في أحوال المرأة والنظر الموضوعي للنسوية وهي تواجه التحديات محاولة اجتياز القلاع متحصنة بالتروس. وبالشكل الذي يجعل لهذا الفكر موقعه الدينامي المهم والفاعل في الحياة كما له هويته التي بها يؤكد مشروعية ما يسعى إلى تحقيقه وقوة ما يخطط له ويبني عليه، فارضا أنظمته ومحددا قوانينه ومركِّزا تجاربه بمحصلات واقعية دقيقة وأكيدة.





وقبل أي بحث عن تأسيس عربي لفكر نسوي، علينا بدءا الوقوف عند النسوية العربية نفسها وتأمل كيفية تشكلها في خضم بعض البوادر الفردية التي ظهرت في مصر مطلع القرن العشرين وبشكل تلقائي، من خلال نساء عربيات متعلمات كان نضالهن أول الأمر اجتماعيا يتعلق بالتعليم والعمل ثم توسع إلى السياسة والانضمام للأحزاب وتبني المواقف الوطنية، داخل مجتمع ذكوري ذي سياقات راسخة ومتجذرة. ولم يكن يسيرا بالطبع خلخلة ثوابت هذا المجتمع دفعة واحدة؛ بيد أن كفاح المرأة في مصر استمر بعد الحرب العالمية الأولى ليمتد إلى بلدان عربية أخرى كسوريا والعراق ولبنان وفلسطين وغيرها.





وصار فضاء النسوية العربية فضاء عاما بعد أن تلاقت فيه الحياة الاجتماعية بالحياة السياسية والعلمية بالثقافية والمحلية بالدولية، كما تنوعت فعاليات هذا الفضاء، فمن معترك التعليم والعمل والاحتجاج والتظاهر والتحزب وتشكيل الكيانات النسوية المستقلة كاتحادات وجمعيات، إلى معترك الكتابة والتأليف المتخصص في المرأة وتعليمها وعملها وبتصورات ورؤى هي بمثابة عتبة دخول جريء للنسوية العربية مع النسوية العالمية.





وقد رافقت بعض مظاهر النسوية العربية صور داعمة لرجال امتلكوا التفكير الواعي بالمرأة ونصرتها، واعين بأهميتها ومكانتها في المجتمع وبروح تنويرية وإصلاحية، ومن هؤلاء الرجال الشيخ محمد عبده وقاسم أمين ومرقص فهمي ومعروف الرصافي والزهاوي وحسين الرحال ومصطفى علي، إلى جانب سياسيين وصحافيين ومحامين ومثقفين ساندوا تحرير المرأة العربية إما في شكل كتب أو خطب أو مقالات أو قصص أو المطالبة بتشريعات وقرارات تخص المرأة وتصب في صالحها ومنها ما تبنت تطبيقه بعض المؤسسات النسوية أيضا. وهكذا بزغ التفكير النسوي العربي وصار الوعي به مسلكا مهما لارتياد مزيد من مظاهر التقدم الفعلية وبخطوات عملية وواقعية وفي مختلف مجالات الحياة العربية.





وإذا أردنا تتبع مراحل هذا الوعي النسوي فسنجدها مبثوثة كشذرات بين نسوة عربيات كن رائدات النهضة النسوية الحديثة. وقد توزع وعيهن النسوي ما بين العمل الذهني المتمثل بالكتابة في التاريخ والأدب شعرا وقصصا ومذكرات ومقالات صحافية ومصنفات تأليفية، وبين العمل الميداني السياسي والنضال الجماهيري التطوعي والخيري وما شاكله. ويمكن تقسيم مراحل هذا الوعي النسوي إلى:





ــ مرحلة التفكير الأدبي وتمتد على طول العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر. وفيها كان بزوغ الوعي النسوي لا يتعدى كتابة الشعر والقصص والمقالات وبإرادة فردية وإصرار ذاتي على امتلاك الهوية النسوية. وقد مثلت هذه المرحلة عائشة التيمورية 1840ـ 1902 الأديبة والكاتبة التي دعت إلى تعليم المرأة، وملك حفني ناصف الكاتبة المصرية الملقبة بباحثة البادية وهي التي ناهضت ثقافة الحريم وأطلقت على الحريم وصف كهف العزلة ولها كتاب “مرآة التأمل في الأمور” وتسميها النسوة المصريات بالأم المؤسسة للنسوية، وزينب فواز الكاتبة والمؤرخة الشامية صاحبة “الرسائل الزينية”، ولبيبة هاشم الصحفية والأديبة اللبنانية التي أصدرت مجلة “فتاة الشرق” ولهذا لقبت بها.





ــ مرحلة التفكير السياسي وتنحصر في العقدين الأوليين من القرن العشرين، وفيها كان بزوغ التفكير السياسي والوطني مقترنا بالوعي النسوي إلى جانب بقاء النزعة الأدبية والثقافية لكن بإرادة أكثر تنويرا ووعيا وبفكر تحرري إصلاحي طغت عليه الروح الجماعية النسوية، سعيا نحو تغيير واقع المرأة. وقد مثلت هذه المرحلة روز اليوسف صاحبة مجلة “روز اليوسف”، وهدى شعراوي التي امتلكت وعيا نسويا متقدما بقضية المرأة، وهند نوفل التي أسست جريدة “الفتاة”، ومي زيادة الأديبة والكاتبة الشامية التي كان لها فكرها المتقدم في الدفاع عن حقوق المرأة والمطالبة بالمساواة، ونبوية موسى الشاعرة والناشطة التي نادت بتحرير المرأة، وبولينا حسون الفلسطينية التي انتقلت إلى العراق وأصدرت عام 1923 مجلة “ليلى” وترأست تحريرها وفيها نشرت عشرات المقالات المنادية بتحرير المرأة العراقية منتقدة التزمت الذكوري كما ساهمت مع سيدات عراقيات في تأسيس نادي النهضة النسائية عام 1923.





ــ مرحلة التفكير المؤسساتي وابتدأت قبيل العقد الثالث من القرن العشرين واستمرت إلى اليوم، وفيها ارتهن الوعي النسوي بالتفكير القصدي العمومي انتقالا من المستويات الذاتية وغير الرسمية إلى مستويات علمية ورسمية عليا، كتحصيل الشهادات الجامعية واحتلال مواقع حزبية رفيعة في مؤسسات وجمعيات نسوية وغير نسوية. وفي مقدمة المؤسسات النسوية الاتحاد النسائي العربي. ومن النسوة اللائي مثلن هذه المرحلة في مصر أمينة السعيد الناشطة المصرية في حقوق المرأة، وعائشة عبد الرحمن المفكرة والكاتبة المصرية التي اشتغلت في الصحافة وأول امرأة حاضرت في الأزهر، وصبيحة الشيخ داود المحامية والكاتبة العراقية وأول امرأة دخلت كلية الحقوق في العراق عام 1936، وامينة الرحال أول عراقية أسفرت ودخلت أحد الاحزاب اليسارية حتى وصلت إلى قيادته العليا.





وعلى الرغم مما شهدته بلادنا العربية فيما بعد هذه المراحل من ثورات تحررية وانقلابات جذرية وانتقالات حضارية كبيرة كان من بين صورها إنشاء مؤسسات تختص بالمرأة ومنظمات تعنى بمختلف شؤون النساء الحياتية؛ فإن النظرة الضيقة للمرأة العربية والتهميش العام للنساء العربيات بقي مستمرا ولم تتمكن الاستراتيجيات والقرارات والمنظمات والتشكيلات التي أريد منها خدمة المرأة من تغيير الصورة النمطية لها كعضو هو الأضعف في المجتمع. وليس مستغربا بعد ذلك أن لا نجد للنسوية موقعاً فكرياً واضحاً وأكيداً في خريطة الفكر العربي المعاصر باستثناء بعض المحاولات النادرة والفريدة، مع أنّ النسوية في أساس تكونها المعرفي وجوهر انتمائها الفكري ترتبط بعالم الفلسفة ارتباطا لا مجال لدحضه أو الارتياب فيه.





* كاتبة عراقية