زيد ابو زيد يكتب ...عام جديد وأمل يداعب الانسانية

جاء في مقدمة العلامًة عبد الرحمن بن خلدون فيما رواه المسعودي في أخبار الفرس عن الملك بهرام ( والموبذان ) وهو رجل الدين عندهم أن بهرام سمع بوماً, فسأل الموبذان عن قصدها , فقال الموبذان : إن هذا بوماً يخطب أنثى, فطلبت منه مهراً لها قدره مئة قرية خراب , فقال لها الذكر : اطمئني , إن استمر حكم الملك بهرام فسأقطعك ألف قرية خراب . وحين سأل الملك عن قصد الموبذان, قال : إنك نشرت الظلم في بلادك وضيعت العدل حين أقطعت الأراضي لخاصتك, فانصرف الناس عن الكسب لانعدام العدل, فخربت البلاد, وضعف الجيش, وطمع في ملك فارس من جاورهم, ثم إن الملك فطن لذلك فنشر العدل, فصلحت الدولة , وازدهر فيها العمران.
إنَما ذكرت هذه الحكاية وأنا أرى استشراء الظلم وغياب العدل في هذا العالم الذي غدا غابة تسكنها الذئاب وتحكم بها الغيلان, فمن غيلان التسلط والاحتلال, إلى ذئاب التعذيب والحصار, ومن ثم وحوش آكلة لحوم البشر, جعلوا من نهب ثروات الشعوب هدفًا لهم, وإثارة الفتن والأحقاد بين أبناء الشعب الواحد سبيلهم, ممنيين إياهم بجنة عدن المفقودة, تحت شعارات لا يؤمنون هم في داخل أنفسهم بها , متناسيين قوله تعالى : " وكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة" .
لقد غدا الظلم وغياب العدل في أيامنا هذه سلعة يسوقها القوي على الضعيف , وبضاعة معروضة في أسواق النخاسة, لا تباع إلا للشعوب المغلوبة على أمرها فقد تشكل النظام العالمي على أساس القوة والاستغلال لا على أساس التكافل والتضامن العالمي.
ولعل الإنسان في غمرة كل هذا يقف حائراً وهو يرى على سبيل الحصر في هذا العصر شراذم من كافة بقاع العالم , وبمساعدة ذئاب غادرة تحتل أرض شعب آخر وتشرده قسراً وعدواناً وبالقوة العسكرية الغاشمة , وبأسلحة لا تخطر ببال أحد زودها به ظالم غشوم أكبر منه , له تاريخ طويل في امتهان كرامة الشعوب , وسرقة مقدراتها , فأين العدل في فلسطين , والغادر قد استعمر الأرض والإنسان والكرامة , وأين العدل في سوريا وليبيا بعد التدخل فيها وإشاعة الفوضى وتسويق الربيع وهو في قرارته خريف لا يبقي ولا تذر , بل أين العدل والقوي المتغطرس يبيح لنفسه ما يحرمه على الآخرين , والقوة والتكنولوجيا, والصناعة , والإنتاج ليس من حق الضعيف , فهذا مهمته الاستهلاك والاستهلاك فقط , إذا سمح له أن يستهلك بالقدر الذي تفرضه مطارق القوي الغلاب وهي حالة تظهر بشكلٍ جلي في زمن الكوارث والازمات والحروب والأوبئة وكلها ماثلة جلية للعيان الان.
إن الذين أقاموا من أنفسهم آلهة للبشر, وسعوا للتحكم حتى في الهواء الذي تتنفسه البشرية, ينسون أن هذا ضد منطق التاريخ ونواميس الكون, فما من ظالم بقي ولا من مظلوم نسي أنه قد سلب حقه في الارض او العيش الكريم.
بعد أيام قليلة سوف ينطلق العام 2021، ويمتد بنا الزمن لأثني عشر شهراً جديداً من المعاناة والعذاب محاولين في كل يوم استشراف المستقبل، وقراءة الأحداث التي بدأت حوادثها وتطوراتها في العام الذي مضى وذهب إلى غير رجعة حمل فيه للبشرية الأسى فمن محاولة إسقاط صفقة القرن المشئومة إلى جائحة كورونا وحرب اللقاحات والعلاجات إلى فتح الصفحات الجديدة بين أنظمة مع إسرائيل دون حسابات الربح والخسارة، ورغم ذلك سيتكون العام الجديد و يمضي في مسيرته المليئة بالأحداث الجديدة لكي يشكل تاريخه الخاص ، ويجد مكانه في أرشيف الإنسانية فهل فيه أمل للبشرية للحصول على الدواء والغذاء والأمن والاستقرار والاستقلال والتخلص من كل عبث المستعمر بثوبه الجديد عبر نظام عالمي انساني جديد نرجو تشكله عجلًا غير آجل.
أما العام الماضي فقد ولى إلى غير رجعة بشكل درامي حمل رئيسًا أمريكيًا جديد جو بايدن وأزاح صاحب صفقة القرن وإرثه معًا وحمل وباءًا لم تشهد البشرية مثيلًا له – كوفيد19- ، وانتهى على أزمة مالية عالمية هائلة وكساد كبير وإغلاقات وانقطاع التعليم الوجاهي وعجز الأنظمة الطبية عالميًا ووفاة الملايين وتفجر الصراع في أكثر من مكان. وحمل ملامح اندحار مشروع صناعة الوهم بالربيع العربي لننتقل الى طرح مشروع الربيع العالمي ليسجل فشلاً ذريعاً للسياسة الأمريكية في العراق وأفغانستان وفشلًا أكبر للمشروع الفرنسي الايطالي في ليبيا وفشلا للسياسة التركية داخليًا وخارجيًا، وهكذا فقد شارفت نهاية مرحلة سقطت فيها سياسات تأكد ثبوت فشلها وعدم صلاحيتها لإدارة المرحلة الراهنة, وبدأ التطلع لمرحلة جديدة، رغم أنَ السياسات المطلوبة لها غير مكتملة المعالم حتى الآن، وإن كان ابرز معالمها فقدان الثقة بالاعتماد على نظام السوق لما أحدثه من اختلالات اقتصادية واجتماعية بسبب ما تنطوي عليه هذه الآليات من انحياز سافر لصالح القلة الغنية على حساب الأغلبية الفقيرة, كما سقطت الأحلام الأمريكية بالسيطرة على مقدرات العالم بوسائل مشروعة وغير مشرعة, بدعوى رقي نظامها السياسي ونبل رسالتها الحضارية, مما فتح الباب أمام انهيار القانون الدولي وسيادة العنف.
ففي داخل الولايات المتحدة الأمريكية وبعد أربع سنوات عجاف مع دونالد ترامب فإن التغير قادم لا شك في ذلك مع بايدن الرئيس الجديد، ولكنه تغيير غير واضح المعالم ، فالتركة ثقيلة ، والتغيير من الصعب أن يتم فجأة ، ومن الطبيعي أن يأخذ شكلا تدرجيا وهادئا، ولذلك من المتوقع أن تكون المرحلة المقبلة انتقالية بطبيعتها لإزالة ركام بناء قديم تصدع وانهار بالفعل وأصبح من المستحيل إعادة إنتاجه, وبناء جديد لم تتضح معالمه بعد وليس بوسع أحد أن يتصور عمق الفارق بينه وبين ما كان قائما من قبل، وحتمية التغيير ليس لأن بايدن يريده أو يطالب به ،ولكن لأنه يستحيل العودة إلى السياسات ذاتها التي كانت متبعة قبل وصول بايدن إلى السلطة، و إخفاق ترامب في التأسيس لنظام أمريكي, ومن ثم عالمي جديد قادر على إزالة الاحتقان الراهن، قد يمهد لانفجار كبير؟.
أما ساحة الصراع العربي- الإسرائيلي , والقضية الفلسطينية أكثرها تعقيدًا بحكم تعقد القضايا, ومواقف الأطراف وتعقد مساعي تحقيق السلام الذي ما زال بعيد المنال ، وكان الفشل نتيجة طبيعية لجملة معطيات أبرزها مواصلة الكيان الصهيوني بناء المستوطنات، وحصار غزة, ويضاف إلى ذلك كله مسألة الانقسام الفلسطيني, والتحولات التي شهدتها الساحة السياسية الصهيونية, والمقدمة كانت ضرورية لأن هناك فائدة كبيرة في البحث عن حصاد العام الذي أنقضى ومضى ، وبصفة عامة فأن عام 2020 اختلف كثيرا عن العام الذي سبقه في الشرق الأوسط من حيث اتجاه ظواهر كثيرة إلى الانفراط والتبعثر والفوضى ، وربما كانت نقطة البداية كلها في صفقة القرن التي بدا أنها ستشكل مستقبل المشروع الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط والعالم بعد فشل مشروعه في العراق وافغانستان وسوريا وليبيا، ولكن مع نهاية عام 2020 لم يكن المشروع قد فشل فقط ، ولكنه مع نهايته تحول من الحالة المادية إلى حالة هلامية، ومع التحول على الجبهة العراقية والسورية والليبية طوال عام 2019-2020 , جرت تحولات مماثلة على الجبهة الإيرانية- الأمريكية, فلم يكن العراق وحده ساحة اختبار القوة بين واشنطن وطهران, وإنما امتدت الساحة إلى الشرق الأوسط , وفي كل هذه الجبهات كان الاختبار مثيرًا , ونجحت الولايات المتحدة في تشكيل جبهة دولية واسعة بدأت في الضغط على إيران وعزلها تدريجيا ،ولم تكن يد إيران خالية من الأوراق فقد راحت تستخدمها بمهارة على الساحتين الفلسطينية واللبنانية والعراقية والسورية, ولكن نتيجة الاختبارات , والاختبارات المضادة ,كانت خسارة حقيقية أو ضمنية للسياسة الغربية.
ولكن ربما كانت أهم تطورات المنطقة لا تجري على الساحة الاستراتيجية والإقليمية وحدها, وإنما سوف ترتبط بسلسلة مهمة من التطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الناجمة عن الأزمة المتفاقمة للنظام العربي، ولعل العنوان الأمثل للأزمة السياسية العربية الراهنة ، يتجلى في تغير المفاهيم والمبادئ والأهداف ، بعد أن تغيرت طبيعة الأنظمة وتركيبتها وركائزها الاجتماعية والطبقية وتحالفاتها الداخلية ، انتقل النظام العربي بمجمله من أرضية التحرر الوطني والاجتماعي كعنوان رئيسي سابق ، إلى أرضية التبعية والانفتاح والارتهان السياسي كعنوان جديد، بعبارة أخرى لم تعد القضايا العربية القومية عموما ، والقضية الفلسطينية بالذات ، تمثل صراعا مصيريا لا يقبل المصالحة بين طرفيه : الإمبريالية العالمية والكيان الصهيوني من جهة وحركة التحرر الوطني العربية من جهة أخرى ، وتحول التناقض الأساسي إلى شكل آخر أشبه بالتوافق العربي الرسمي-الأمريكي-الكيان الصهيوني ،الذي أوصل معظم بلدان النظام العربي إلى حالة تعبر عن فقدان الوعي الوطني وثوابته ومرجعياته سواء بالنسبة للقضايا السياسية الاقتصادية الاجتماعية الداخلية أو ما يتعلق بالقضايا الوطنية والقومية .
فقد باتت إشكاليات الواقع العربي العديدة و المتنوعة إشكاليات عميقة ، بسبب اتساع حجم و قوة الضغوط العدوانية الأمريكية/الصهيونية ، التي تحاول تأسيس مقومات مشروع التوسع الامبريالي المعولم ، ببعديه، السياسي والاقتصادي ، الهادف إلى إعادة تشكيل الجغرافيا العربية وتفكيك كل مقومات النهوض القومي الذاتي في بلدان وطننا العربي، لحساب "المشروع الحضاري الغربي" باسم الليبرالية الجديدة و الخصخصة و السوق الحر و تحرير التجارة و الانفتاح والتطبيع مع العدو الصهيوني والتي ثبت فشلها جميعاً وفشل مسوقيها في نقل أفكارها للقواعد الشعبية.
إن إيماننا بآفاق المستقبل الواعد لأمتنا في حسم الصراع العربي الصهيوني بما يحقق أمانيها و مصالحها ، لا يعني أننا نؤمن بحتمية تاريخية يكون للزمان و المكان دوراً رئيسياً و أحادياً فيها ، بل يعني تفعيل و إنضاج عوامل و أدوات التغيير الديمقراطية الحديثة و المعاصرة ، و البحث عن مبرراتها و أسانيدها الموضوعية الملحة من قلب واقعنا الراهن ، الذي لم يعد مجدياً لتغييره ، كافة الأدوات و الرؤى و السياسات الهابطة ، انتقلنا عبرها إلى ضياع الهدف بعد تغييب الثوابت الوطنية و القومية ، وفي مثل هذا الواقع ، تنضج معطيات و مقدمات عملية التغيير ، بصورة تراكمية ، بطيئة أو متسارعة ، و موضوعية أيضاً كآليات أو إرهاصات فكرية تتمحور حول فكرة أو مجموعة أفكار توحيدية تعبر عن تطلعات كل الجماهير الشعبية العربية في التحرر والديمقراطية و الانعتاق و الخلاص من كل أشكال المعاناة و الحرمان و الظلم والاستغلال.
إننا ، حينما نتحدث عن نضوج العوامل الموضوعية ، فإننا نعني بذلك ، و بصورة مباشرة ، هذا المشهد السوداوي الذي تعيشه أمتنا و الذي أعاق حركة تطور شعوبنا العربية كلها ، و أبقاها أسيرة الماضي، بعيداً عن المرحلة الجديدة بمتغيراتها الهائلة في القرن الحادي و العشرين الذي نتعاطى معه بمفهوم الوجود في المكان فحسب ،و بعيداً عن أي دور أو تفاعل إيجابي ومؤثر لنا في زمانه و مستجداته ، رغم أن الإمبريالية المعولمة و أداتها الحركة الصهيونية تضعنا أمام حالة صراع من نوع جديد يستهدف عبر محاولتها اليائسة إلغاء حقوقنا التاريخية وشطب إمكانية تجدد مشروعنا القومي و إبقاءه مفككاً مشتتاً فاقداً لمقومات التحدي و النهوض والتطور.
في ضوء ما تقدم فليكن العام الجديد فرصة للحديث عن الوحدة العربية و إعادة تفعيل و تجديد المشروع النهضوي القومي للخروج من هذا المشهد أو المأزق الخانق ، ليمثل الانطلاق بداية من رؤية واقعية جديدة لحركة التحرر القومي باعتبارها ضرورة تاريخية تقتضيها تناقضات المجتمع العربي الحديث وضرورات تطوره المستقبلي من جهة ، و بوصفها نقيض الواقع القائم من جهة أخرى ، وعلى أن هذه الرؤية لكي تستطيع ممارسة دورها الحركي النقيض ، و القيام بوظيفتها و مهماتها التاريخية الساعية إلى إلغاء نظام التجزئة الذي فرضته الإمبريالية، و تعمل على توحيد الجماهير العربية بما يخلق منها قوة قادرة على الفعل التاريخي على الصعيد العربي و الإنساني العام و استيعاب السمات الأساسية لثقافة التنوير والحداثة و ما تتضمنه من عقلانية علمية و روح نقدية إبداعية و استكشافية متواصلة في فضاء واسع من الحرية و الديمقراطية ، و إدراك واضح لموضوعية الوجود المادي و الوجود الاجتماعي ، و ما يعنيه ذلك من إدراك الدور التاريخي للذات العربية و سعيها إلى الحركة و التغيير انطلاقاً من أن الإنسان هو صانع التاريخ و القادر على الابتكار و التغيير في حاضره و مستقبله .



















