+
أأ
-

مدخل إلى الوجدان الجمعي للأمم

{title}
بلكي الإخباري

 

فيجا ابو شربي

 

في أعماق كل أمة، هناك وعي خفي يتجاوز الأفراد، عقلٌ جمعيّ ينبض على إيقاع التاريخ، ويتلوّن بلون الأرض التي نشأ فيها. ذلك الوعي هو ما يمكن أن نطلق عليه "الوجدان الجمعي للأمم"، ليس مجرد مصطلحٍ أكاديمي، بل نافذة نطل منها على جوهر ما يصنع روح الأمة، وما يشكّل انفعالاتها، ردود أفعالها، آمالها وخيباتها.

فالأمم، وإن بدت كأرقام على خارطة العالم، هي في الحقيقة كائنات نفسية ضخمة، تتحرك بدوافع أعمق من المصلحة المباشرة، وتتخذ قراراتها أحياناً خارج نطاق العقل البارد والمنطق المجرد. هناك شيء في "نفس الأمة" يشبه ذاكرة الجسد؛ فهي تتذكر، تنسى، تتألم، وتنتفض، أحياناً بطريقة لا يمكن تفسيرها دون فهم بنيتها النفسية الجمعية.

كيف يتشكل هذا الوجدان؟

إنه يولد من رحم التاريخ، من صدمات كبرى تُختزن في الذاكرة الجمعية، لتتحول إلى مشاعر متوارثة، وتصورات لا واعية. الهزائم، الثورات، المجاعات، لحظات النصر والانكسار، كلها ليست فقط أحداثاً تُسجل في كتب التاريخ، بل علامات محفورة في وجدان الأمة. فذاكرة الأمة ليست سجلًا زمنيًا فحسب، بل جرحًا مفتوحًا أو وسامًا على صدر الأجيال.

إلى جانب التاريخ، يأتي الاقتصاد كصانع خفي لمزاج الجماعات. حين يشعر الناس بالوفرة، تميل أرواحهم إلى الطمأنينة والإبداع، وتولد بينهم أحلام التوسع والنهضة. أما في أزمنة الجوع والبطالة، فيغدو الخوف هو المحرك الرئيسي، ويصبح الغضب قابلاً للاشتعال لأبسط الأسباب. تتشكل طبائع الأمم حينها في قوالب مختلفة: بعضهم ينكفئ إلى الداخل، وبعضهم ينفجر إلى الخارج، وثمة من يختار طريق الأمل كوسيلة للبقاء.

لكن لا يمكن فصل وجدان الأمم عن ثقافتها، تلك البنية العميقة التي تشبه نظارات لا تُخلع، ترى بها الجماعات نفسها والعالم. من خلالها تُفهم الفضيلة، تُحدد القيم، وتُبنى الأحكام. ثقافةٌ قد تزرع في النفوس الاحترام والانضباط، أو تدفعها نحو الثورة والتمرد. وقد تكون أحياناً مرآةً صادقة، وأحياناً أخرى قناعًا يُخفي التناقضات.

ثم تأتي السياسة، كالعازف الذي يحدد نغمة العزف في المسرح الكبير للعقل الجمعي. في ظل القمع، يخفت صوت الثقة، ويزدهر الخوف، ويُعاد تشكيل السلوك على مقاسات النجاة. أما حين يشعر الناس أن أصواتهم مسموعة، فإن النفسية الجمعية تنفتح، وتبدأ بالبحث عن المعنى والمشاركة، لا عن الهروب والصمت.

يبقى سؤال جوهري: كيف يختلف وجدان الفرد عن وجدان الجماعة؟

إن الفرد، حين يكون وحده، قد يُحكم منطقه ويزن الأمور بعقله، لكن ما إن يذوب داخل مجموعة، حتى تظهر شخصية جديدة، لا هي عقلانية تماماً، ولا عاطفية بالكامل، بل شيء ثالث، يتحرك بشحنة وجدانية هائلة، ويندفع بقوة الصور الرمزية والشعارات البسيطة. في لحظات معينة، يتحول الجمع إلى كيانٍ قادر على التضحية، أو على التخريب، بنفس الدرجة من الإيمان.

إن الوجدان الجمعي للأمم هو علم اللاوعي التاريخي، ومحاولة لفهم لماذا تتخذ الأمم قراراتها، لا حين تكون في أوج عقلانيتها، بل حين تكون تحت ضغط المشاعر الكبرى: الخوف، الغضب، الأمل، الفخر، الذل. إنها العدسة التي تفسر لنا لماذا تختار بعض الأمم طريق الحرية ثم تخاف منه، ولماذا تنهض أخرى ثم تسقط فجأة، كما لو أن شيئاً ما قد انكسر في داخلها.

فوراء كل ثورة، هناك تراكم طويل من الإحباط والخوف المكبوت. ووراء كل سلام، هناك تعب نفسي من الحرب، ورغبة في الشفاء. ووراء كل نكسة، غالباً ما يوجد تصور جماعي خاطئ عن الذات أو عن الآخر. لهذا، فإن فهم الوجدان الجمعي للأمم ليس رفاهية معرفية، بل ضرورة حضارية. فمن لا يقرأ وجدان أمته، يعجز عن قيادة حاضرها، ويضيع في فهم مستقبلها.