ربى عياش : نظام عالمي جديد متطرف

في اقتباس منسوب للمفكر أنطونيو غرامشي يقول “العالم القديم يحتضر، والعالم الجديد يعاني ليولد؛ الآن هو زمن الوحوش.”
يبدو أننا نعيش اليوم في وقتٍ ضائع؛ نعاني من فوضى عالمية أخلاقية وقيمية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية ناتجة عن الفراغ. نحن في مرحلة انتقالية: كلٌّ يحاول النجاة بنفسه، وكلٌّ يحاول فرض بصيرته ورؤيته، وكلٌّ يسعى لإخراج نظامٍ على مقاسه. من الولايات المتحدة إلى روسيا، ومن الصين إلى الاتحاد الأوروبي، إلى البلاد التي لا تغيب عنها الشمس؛ وفي الضفة الأخرى، هناك الشرق الأوسط ينازع ويدفع أثمانًا باهظة.
الشرق الأوسط يتخبط، ولا يبدو أنه يملك مشروعًا بديلًا لكل ما يحدث له. ولا يبدو أن هناك وحدةً حقيقيةً في تحقيق أهداف واضحة، ولا يبدو أن هناك بعد نظر لما بعد اللحظة بخطوة. نجد أنفسنا في لحظةٍ رماديةٍ تزدحم فيها الوحوش وتضيع فيها البوصلة. وهذه ليست نبوءةً، بل تأملٌ في الواقع الذي نعيشه اليوم.
لذلك، ربما نحن في وقتٍ حساس، وعلى الجميع الانتباه والبقاء متيقظين، والسعي للتعلم وفتح “العين الثالثة”. على كلٍّ منّا، ممثلين كأفرادٍ ومؤسساتٍ ودول، أن نكون على درايةٍ بالطريق الذي نسلكه، وإلا فلن تكون النتائج مرجوة. سيظل كثيرٌ من الشعوب والأجيال يعيدون حاضرهم في المستقبل، وماضيهم في حاضرهم، وسيبقون أسيرين لعنة أخطاء سلالاتهم.
أخيه الإنسان
لا مجال للمشتتات، ولا مجال لغضّ البصر عن أيّ اختلال، ولا مجال للتراخي في صناعة الحاضر وإصلاح هذا الخراب المتراكم، خاصةً في الشرق الأوسط. يجب أن يبدأ التحضير لمشروعٍ إنساني ووطني وهوية فردية وجماعية جديدة، وإلا سيظل الخارج هو من يرسم ملامح الداخل، بأعلامهم وأهازيجهم وأغانيهم وشعاراتهم وهوياتهم وقومياتهم.
البلاد انهارت على رؤوس قاطنيها، كل البلاد. يعيش العالم نكبات ونكسات بشكل متكرر؛ ومع ذلك، يبدو أن لا أحد يأبه في ظل جيلٍ تعلّم الرقص قبل أن يتعلم كيف يفكر، وفي ظل عالمٍ يعج بالأنانية. في عالمٍ أعاد تعريف قيمته بحذائه، انقلبت الموازين، وكثُرَتْ أحلامهم وأصبحت ترندات، وصراخهم يُختصر في “ستوري”، ومصيرهم تحدده الخوارزميات. وفي الوقت ذاته، تتزايد الضرائب، وتعيد الأجيال التي سبقتنا توزيع موازين القوى، وإعادة رسم الخرائط؛ سماسرة الخراب يتقاسمون الغنائم، ويقدمون المئات يوميًا كقرابين لآلهتهم. يسيطرون على مضمون الإعلام، ويتحكمون بالمحتوى والمعرفة والأدوات، ويخترقون خصوصيات الأفراد؛ وربما يحاولون قريبًا قراءة الأفكار، ليضحى الجميع مستهلكًا، والأهم؛ عبدًا.
يعمل الأفراد مقابل الفتات، بل إن الأعمال اليومية بدأت تُسحب من أيدي الناس؛ يحاولون استبدال البشر بالآلات. هيهات أن تصبر الآلات على ظلم الإدارات وأصحاب المال؛ فحتى الآلة، سنراها بعد مدة تنتفض على من صنع ظلمها. يريدون استبدال الذكاء البشري بذكاء صناعي، ومن يوحي للآلات؟ وكيف يمكن لمجتمعات ودول أن تكون متحضرة، ديناميكية، ليست راكدةٍ ولا عفنة في فكرها، من دون إلهام يخرج من ثنايا عقول الأفراد… وليس من الآلات؟
وبعد كل ذلك، ماذا يبقى للإنسان؟ من نحن إن لم نملك عملًا، حرية، إنسانية وكرامة؟ من نحن بلا صوت، فكر، رأي وبصيرة؟ ربما نحن في زمن محاولات الوحوش لخلق نظام عالمي جديد متطرف أكثر؛ قوانينه تسير لصالحهم ولا لصالح الجماعة. ربما كل نظام عالمي جديد هو مجرد تحديث لنظام سابق؛ ربما تتغير به بعض الآليات، ويتم التخلص من بعض الجماعات غير المرغوبة فيه، لكن روح حكم روما وروح سلطة الفرعون لا تزال تنبض به حتى يومنا هذا، من شرق هذا العالم حتى غربه. لذا، على كل إنسان أن يحرص على البقاء مستيقظًا كل يوم.
مهما ترنَّح الناس فوق الصراط المستقيم، فإن التاريخ يشهد بأن بعد كل طوفان، تنجو سفينة نوح. وأنا من هنا بين التائهين أحاول النجاة؛ أفكر: ربما.. ربما مصير هذا العصر الإنساني المشوّه هو الاستيقاظ يومًا من غيبوبته، أو ربما لن ننجو، وسيكون مصيرنا الهلاك بلا عودة. سنهرم حينها ونتداعى، ونندثر مثل كل الحضارات التي تعبت من نفسها واندثرت.
◄ لا مجال للمشتتات، ولا مجال لغضّ البصر عن أيّ اختلال، ولا مجال للتراخي في صناعة الحاضر وإصلاح هذا الخراب المتراكم، خاصةً في الشرق الأوسط
فنحن، مع كل تطور الأدوات والانفتاح العالمي، لسنا أفضل ولا أكثر علمًا وتطورًا ومعرفة أو حضارة. ولا نملك أي شيء – أي شيء – يميز عالمنا المعاصر عن أيّ عالمٍ سابق.
لذا، إن كانت الطوفانات لم تنتهِ، وهي قادمة لا محالة، فهل سنكون ممن يصنعون سفينة النجاة؟ أم سنكون ممن ينظرون من بعيد وينتظرون معجزةً لم تأتِ يومًا لمن لم يتحرك؟
إنه تحذيرٌ لا تنظير، على كلٍّ منا أن يعي حقيقته وأن يبدأ بكبح شياطينه، ويعيد تعريف هويته كإنسان. علينا أن نتخلى عن شياطيننا وأن نتوقف عن تقديم البعض منا قرابين. على كلٍّ منا ألا يعتاد على الوحشية أو الفساد أو الترنح أو الخطأ، وأن يظل متمسكًا بآخر سطر من إنسانيته وقيمه على أقل تقدير.
علينا نحن الأفراد هنا في الأسفل ألا نزود من هم في الأعلى بالمزيدٍ من السطوة والسلطة لإنهائنا وإنهاء آخر ما تبقى من إنسانيتنا.
كل تعاطف يُمارَس على مسارح رقمية مع الآخر باطلٌ ولا يُغيِّر شيئًا، إن لم يتبعه وعي وفعل وإدراك حقيقي للمسرح، وإن لم تكن هناك معارضة حقيقية للأصنام والنظام الميكيافيلي المشؤوم.
كل محاولات الإنسان في التحرر ستفشل إن لم تُبنَ على وعي عميق وعدالة مشتركة؛ فلا حرية لإنسان دون حرية أخيه الإنسان.