التكافل الاجتماعي ومقاومة التقنين الإداري … في مبادرة تنظيم الظواهر الاجتماعية .

كتب الناشر - المبادرة الحكومية التي اطلقتها وزارة الداخلية و تهدف إلى "تنظيم الظواهر الاجتماعية" عبر تحديد صارم للأعداد أو الأيام، رغم أنها تنطلق من نوايا اقتصادية حسنة لتخفيف الأعباء، سرعان ما ستجد نفسها مصطدمة بالضرورات والذاكرة الوجودية العميقة للمجتمع الأردني هذه المبادرة تمثل إشكالية تقنين التكافل المجتمعي بآلية إدارية جافة ومعلبة الأمر الذي سيُفضي حتما إلى تهاويها.
ففلسفة العزاء لا تنحصر في مجرد الطقس اللفظي ( أعظم الله اجركم ) بل تتجسد جوهريا في المواساة بالتواجد الفاعل حول أهل المتوفي حيث يشكل الحضور البشري المكثف على مدى أيام حاجزا نفسيا يُمكّن من تشتيت الذهن عن المركز المؤلم للفقد، ويسمح ببدء عمل ذاكرة النسيان التي تحتاج زمنا لتنشيطها ولا يمكن ذلك خلال يوم واحد . فتقليص هذه المدة بشكل قسري يمثل تقييدا على حق الأسرة في الزمن للشفاء الروحي وتجاهل للدور العلاجي الذي يلعبه الامتداد الزمني للحدث الاجتماعي .
أما المطلب الآخر بتقليص أعداد المشاركين في الجاهات فيتجاهل البنية العضوية والمعقدة للعشيرة والتي هي ليست مجرد رقم إحصائي بل شبكة قرابة وجودية حيث قد يصل عدد أبناء العمومة في التفرعات الواحدة إلى المئات. ويعتبر استثناء أي جزء من هذه الشبكة من المشاركة في هذا الحدث السيادي للعشيرة بمثابة شرخ اجتماعي ووجودي خطير يهدد ميثاق التجذير العائلي ويتناقض مع قيمة الوحدة والتكافل التي يُفترض أن المبادرة تدعمها !!!!
وفي سياق ولائم الأفراح، يصطدم التقنين المقترح بمنطق القرض والدين الاجتماعي المتراكم، وهو نظام محاسبة غير مرئي يحكم التبادل الاجتماعي فالدعوة في هذه المناسبات هي سداد رمزي للديون الاجتماعية وضمانة لاستمرار الدعم والتكافل المستقبلي وأي تخلٍ إداري عن هذه الشبكة المعقدة يعني تفكيك ناعم لهياكل الدعم المتبادل التي يعتمد عليها المجتمع في مقاومة الضغوط الحياتية تحت عنوان واجب الرجال على الرجال دين .
ولعل الأهم أن المبادرة كانت مؤهلة لاكتساب دعم شعبي لا مشروط لو أنها لم تكتف باستهداف التقاليد الاجتماعية فحسب بل شملت أبعاد الحوكمة والنزاهة المؤسسية مثل وقف مشاركة المسؤولين في الجاهات لإزالة التداخل المربك بين الوجاهة العشائرية والنفوذ الوظيفي عبر الكرسي ، ووضع ضوابط صارمة على تواصل الموظفين الحكوميين مع المستثمرين والتجار خارج أوقات الدوام الرسمي لتحصين القرار العام من شبهات استغلال النفوذ والتأثير الخفي .
ففشل المقترحات في تبني هذه الإصلاحات الهيكلية المتعلقة بالنزاهة يُفقدها جانبا كبيرا من مصداقيتها في نظر المواطن، الذي يرى أن القيود تُفرض على التقاليد العاطفية والالتزامات الاجتماعية ، بينما تُترك منافذ التأثير دون معالجة جذرية أو مسؤولية ذاتية، مما يعمق أزمة الثقة بين الحكومة والمجتمع.















