د. هشام ذكر الله يكتب ..حضرت للعيادة مع زوجها ترتجف !!

الدكتور هشام غسان ذكر الله - استشاري الطب النفسي
كانت شاحبة الوجه زائغة العينين مرتجفة الصوت تهذي من الرعب وكأنها أمام ملك الموت أو في يوم القيامة ذاهلة من الهول فتذكرت قول الله(وترى الناس سكارى وماهم بسكارى )
كانت امرأة في الثلاثينات من عمرها حضرت برفقة زوجها وإخوتها مستندة إليهم خائرة القوى…
كانت تتحدث معي وهي تلهث ، ولم تفلح علبة الماء في ترطيب فمها الجاف..
كان جبينها متقدا من الحرارة ويداها باردتان كالصقيع…
طلبت فتح النافذة وجرت إليها لتستنشق مزيدا من الهواء وكأنها غارقة صعدت لتوها من الماء..
كانت تتمتم بكلمات غير مترابطة …
طلبت منها أن تستريح …
وأشرت لزوجها أن يبدأ بالحديث…
فقال زوجها : من شهر ، كنا نتسامر ونتجاذب أطراف الحديث،
كان الحديث سلسا وطبيعيا وكانت تضاحكني وتمازحني…
فجأة وجدتها جاحظة العينين تنظر مرعوبة إلى اللاشئ قامت من مكانها تتحرك في الغرفة كأنها رأت ملك الموت وتحاول الفرار منه ، شدتني من ثيابي وهي تقول :هوا هوا مش قادرة اتنفس
حملتها فورا إلى الحديقة سقطت مغشيا عليها
وكان صوت نبضها مسموعا يكاد قلبها أن يخرج من صدرها …
طلبت فورا الإسعاف وبدأ المسعفون في إجراءات الإسعاف لكن دون جدوى…
وصلت للطوارئ، قاموا ليباشروا بإعطائها خافضا للضغط وقناعا من الأكسجين وبعمل تخطيط للقلب وقياس مستوى الأكسجين في الدم..
فجأة وقبل أن يبدأوا في إجراءاتهم انخفض نبضها وعاد تنفسها للطبيعي وزال ألم الصدر..
كان تخطيط القلب ومستوى الغازات في الدم طبيعيا…
وبينما كان زوجها يتحدث ، تذكرت مناوباتي في الطوارئ أيام التدريب في سنة الامتياز..
عادت بي الذاكرة خمسة عشر عاما إلى الوراء…
أغلب الحالات التي تأتي للطوارئ بأعراض تشبه أعراض الجلطة يتبين أنها سليمة…
كان أطباء الطوارئ يفسرون ألم الصدر على أنه ألم نتيجة تقلص العضلات …
لم يكن تفسيرهم مقنعا بالنسبة لي …
بعد أن تخصصت في الطب النفسي أتتني امرأة في طوارئ المستشفى النفسي..
تلك هي ذاتها التي رأيتها من سنين في الطوارئ..
كانت شبه مناوبة في قسم الطوارئ لايمر يوم إلا وتصيبها نفس الحالة..
كان الأطباء يشرحون لزوجها أن هذه حالة نفسية..
لم يتفهم زوجها ماعلاقة النفسية بألم الجسد؟!
ثم إن الحالة تأتيها بشكل مفاجئ وتكون في حالة الراحة حتى أن الحالة تأتيها في عز نومها؟!!!!
لكنه في نهاية الأمر وبعد أن يئس من الاعتكاف في الطوارئ قرر كمحاولة أخيرة أن يحضرها إلى المستشفى النفسي..
في لقائنا الثاني تذكرت الرجل وزوجته حينما أتيا إلى الطوارئ من سنوات لكنه بالقطع لن يتذكرني..
هذه المرة كان باستطاعتي أن أساعده وأن أشرح له الوضع بوضوح وبساطة..
الحالة التي تعاني منها زوجتك حالة نفسية شائعة تسمى نوبات الهلع ، تصيب مايقارب عشرة بالمئة من البشر..
نوبة الهلع تأتي في أي وقت وبشكل مفاجئ ولايشترط أن يكون الإنسان متوترا بل قد تأتي والإنسان سعيد أو هادئ أو يغط في نوم عميق أو وهو يمارس الحب !!!
أعراضها تأتي مشابهة لأعراض الجلطة أو الاختناق حتى أن كثيرا من المرضى يصفونها بأنهم واجهوا الموت وتلوا الشهادة ثم عادوا للحياة بعد انتهاء النوبة..
لكن في الحقيقة نوبة الهلع تختلف عن الجلطة أو الاختناق بأن القلب سليم والرئتان سليمتان!!
سبب هذه الحالة يكمن في اللوزة!!
منطقة صغيرة في الدماغ بحجم اللوزة وتسمى اللوزة الدماغية"Amygdala “..
تلك اللوزة هي بمثابة جرس إنذار الحريق عند الإنسان وهي المسؤلة عن تنبيه الإنسان حين يواجه خطرا يهدد حياته فتقوم بإعطاء الأوامر فورا للقلب أن يبدأ بالعمل بسرعة لضخ الوقود(الدم) في العضلات ليسارع الإنسان بالهرب وفي نفس الوقت بأمر مركز التنفس في جذع الدماغ بالإسراع في التنفس للحصول على أكبر قدر من الأكسجين اللازم لاحتراق الوقود وإمداد العضلات بالطاقة اللازمة للجري أو للقتال وبذلك تكون العضلات مستنفرة مشدودة..
هكذا تعمل اللوزة عندما يواجه الإنسان أسدا مفترسا أو رجلا يحاول الاعتداء عليه وهي المسؤولة عن القوة التي تأتي للإنسان في الجري أو القتال حين يكون مستنفرا ولربما لن يستطيع الجري بتلك السرعة في حالته الطبيعية…
تخيل أنك قمت بإشعال سيجارة في غرفة تحوي جهاز إنذار الحريق!!!
سيقوم جهاز الإنذار باستشعار دخان السيجارة على أنه دخان حريق وسيرسل تنبيها خاطئا !!
في نوبات الهلع ونتيجة لاختلال المواد الكيميائية في الجهاز العصبي تقوم اللوزة بالعمل تلقائيا دون وجود أي خطر مما ينتج عنه إنذار كاذب وشعور مشابه لدى الشخص بشعور مواجهة أسد مفترس ومن ثم الخوف من الموت المحتم..
هناك مادتان هما المسؤولتان عن حالة التوازن في اللوزة..
المادة المحفزة للوزة وهي (النور أدرينالين) الذي نشعر بانطلاقها في جسدنا عند التحمس أو الخوف أو الغضب أو ممارسة الرياضة وهي التي تشحن عضلاتنا بالقوة والنشاط..
أما المادة الأخرى المسؤولة عن تثبيط اللوزة أو الحفاظ عليها في حالة الهدوء هي السيروتونين..
وهذا التوازن يختل عند بعض البشر إما بزيادة في إفراز النور أدرينالين المحفز أو بنقص في السيروتونين المهدئ مما ينتج عنه إنطلاق جرس اللوزة كتنبيه كاذب رغم أنه لايوجد خطر حقيقي..
أما استغرابك لاعتبار نوبات الهلع من ضمن الاضطرابات النفسية فذلك عائد لنقص في مفهوم الاضطرابات النفسية..
الاضطراب النفسي ليس شيئا وهميا أو معنويا أو روحيا..
الاضطراب النفسي هو في حقيقته عضوي تماما مثل اضطراب الغدة الدرقية لكن الاختلال يحدث في المواد الكيميائية في الجهاز العصبي ولذلك فالأدوية النفسية تسمى في بعض المراجع بالأدوية العصبية والطب النفسي كان سابقا ضمن طب الأعصاب إلا أن طب الأعصاب يهتم بأجزاء الدماغ المسؤولة عن الحركة والتوازن والإحساس أما الطب النفسي يهتم بأجزاء الدماغ المسؤولة عن المشاعر كالخوف والغضب والفرح والحزن وبالأجزاء الدماغية المسؤولة عن الأفكار كاليأس والفخر والثقة والتفاؤل أو التشاؤم…



















