تعيش تحت قيود مستمرة.. الاحتلال يخنق بيت لحم بإغلاقاته المتكررة

في ساعات الصباح الأولى، حين تبدأ الحركة اليومية في القرى جنوب بيت لحم، كان المشهد مختلفًا وثقيلاً على سكان المنطقة، الاحتلال أغلق مدخل قريتي المنشية ومراح رباح، وفرض حصارًا شبه كامل، في منطقة تعيش أصلًا تحت قيود مستمرة، في ظل إغلاق المدخل الرئيسي لبلدة بيت فجار منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023.
لم يكن الإغلاق استثنائيًا أو عابرًا، بل امتدادًا لسياسة باتت تتكرر أسبوعيا، وتترك أثرا تراكميا على حياة آلاف الفلسطينيين.
بالتأكيد، الواقع الذي تعيشه محافظة بيت لحم وقراها، تعيشه كافة المحافظات الفلسطينية يوميا، في ظل إجراءات وحواجز الاحتلال وبواباته التي تزيد من صعوبة حياة المواطنين.
ووفقا لتقرير صادر عن هيئة مقاومة الجدار والاستيطان في شهر تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، فإن العدد الإجمالي للحواجز الدائمة والمؤقتة (بوابات، حواجز عسكرية أو ترابية) التي تقسم الأراضي الفلسطينية وتفرض تشديدات على تنقل الأفراد والبضائع بلغت حتى اللحظة ما مجموعه 916 ما بين حاجز عسكري وبوابة، منها 243 بوابة حديدية نصبت بعد السابع من تشرين الأول
(أكتوبر) 2023.
مع ساعات الصباح، وجد الموظفون والطلبة والسائقون أنفسهم أمام طرق مغلقة، وحواجز حديدية، وجنود يتحكمون بفتح الحاجز وإغلاقه لدقائق معدودة، ثم يعيدون إغلاقه دون سابق إنذار. لا دخول ولا خروج من المنطقة، إلا في لحظات قصيرة لا تكفي لتخفيف الازدحام أو تنظيم حركة السير. هذا الواقع خلق حالة من الشلل شبه التام، وحول الطريق اليومي إلى رحلة قسرية من الانتظار والقلق.
المنطقة المحاصرة تضم قرى وبلدات مترابطة جغرافيا واجتماعيا واقتصاديا. بيت فجار، المنشية، ومراح رباح تشكل نسيجا واحدا، يعتمد سكانه على الطرق نفسها للوصول إلى أماكن العمل، والمدارس، والجامعات، والمستشفيات، والأسواق. ومع إغلاق المدخل الرئيسي لبيت فجار منذ أكثر من عامين، باتت القرى تعتمد على طرق بديلة ضيقة، أُنشئت في الأصل للاستخدام المحلي، لا لاستيعاب آلاف المركبات يوميًا.
في الطريق المؤدية لمدخلي قريتي مراح رباح والمنشية، وقفت عشرات المركبات في طابور طويل. أصوات أبواق متقطعة، ووجوه مرهقة، وسائقون يحاولون إيجاد مسار بديل دون جدوى. محمود طقاطقة، موظف في إحدى المؤسسات بمدينة بيت لحم، يقول وهو ينظر إلى ساعته بقلق: "أخرج من بيتي قبل ساعتين على أمل أن أصل إلى عملي في الوقت المحدد، لكني ما زلت هنا. هذا ليس أول مرة، بل أصبح أمرا اعتياديا. كل أسبوع نُفاجأ بإغلاق جديد، ونبقى معلّقين على حاجز يُفتح دقائق ويُغلق لساعات".
يضيف محمود: أن التأخير المتكرر بدأ ينعكس على عمله: "في البداية كان الأمر يُقابل بتفهم من الإدارة، لكن حين يتكرر التأخير يوما بعد يوم، يصبح الموظف هو المتهم، وكأننا نختار التأخير بإرادتنا. هذا الوضع يضعنا تحت ضغط نفسي دائم".
على مقربة من المكان، كانت سيدة تحاول تهدئة طفلها داخل مركبة متوقفة، وهي أم لثلاثة أطفال، اثنان منهم طلبة مدارس خاصة. تقول: "كل يوم أشعر بالقلق لا أعرف هل سيُفتح الطريق أم لا. أحيانا نضطر للعودة إلى البيت لأن الحاجز يُغلق لساعات، فيغيب الأولاد عن مدارسهم. التعليم حق، لكن أولادنا يُحرمون منه بسبب هذه الإغلاقات".
الطلبة الجامعيون أيضًا من أكثر الفئات تضررًا. أمل طقاطقة، طالبة في إحدى جامعات بيت لحم، تشرح معاناتها: "لدي محاضرات صباحية لا يمكن تعويضها. حين يُغلق الحاجز، أضطر للنزول من المركبة والمشي لمسافات طويلة، أو الانتظار ساعات. أحيانًا أصل متأخرًا، وأحيانًا أعود دون أن أصل. هذا يؤثر على تحصيلي الأكاديمي وعلى نفسيتي".
ولا تقتصر المعاناة على الموظفين والطلبة فقط، بل تمتد إلى السائقين، خاصة سائقي المركبات العمومية. يقول سامر ثوابته وهو سائق لمركبة عمومية "نعمل على خطوط داخلية تعتمد على هذه الطرق. عندما يُغلق الحاجز، تتوقف أرزاقنا. نقضي ساعات دون عمل، نستهلك الوقود، ونخسر الركاب. في النهاية، نحن من يدفع الثمن".
ومع فتح حاجز المنشية لدقائق معدودة، تتدفق المركبات دفعة واحدة، ما يخلق اختناقات مرورية خانقة على الطرق البديلة. هذه الطرق، كما يصفها الأهالي، لا تحتمل هذا العدد الهائل من المركبات، فهي ضيقة، تفتقر للبنية التحتية المناسبة، ولا توجد فيها إشارات مرورية أو مسارب كافية لتنظيم السير. الأمر لا يتوقف عند التأخير فقط، بل يتعداه إلى مخاطر حقيقية على السلامة العامة.
رئيس مجلس قروي المنشية خضر أبو دية في حديثه عن الواقع القائم، يؤكد أن ما يجري ليس مجرد إغلاق عابر، بل سياسة ممنهجة تضاعف معاناة المواطنين. يقول: "منذ إغلاق المدخل الرئيسي لبيت فجار، أصبحت الطرق البديلة هي الشريان الوحيد للمنطقة، لكنها غير مهيأة لاستيعاب هذا العدد من المركبات. هذه الطرق صُممت لخدمة القرية، لا لتكون ممرا إجباريا لآلاف المواطنين يوميًا".
ويضيف أن الإغلاقات المتكررة تخلق ضغطا هائلا على البنية التحتية: "الطرق تتعرض لتلف سريع، وحوادث السير في تزايد، والمواطن يعيش حالة توتر دائم. نحن نتلقى شكاوى يومية من أهالي القرية، من مرضى لا يستطيعون الوصول إلى المستشفيات، وطلبة يفقدون حقهم في التعليم، وموظفين يُعاقبون على تأخير خارج عن إرادتهم".
ويشير أبو دية إلى أن الاحتلال لا يقدم أي بدائل أو حلول، بل يكتفي بالإغلاق والتحكم بفتح الحواجز وإغلاقها: "حين يُفتح الحاجز لدقائق، تتكدس المركبات بشكل عشوائي، ما يزيد من خطورة الوضع. هذا ليس تنظيمًا، بل فوضى مقصودة تُستخدم كأداة ضغط على السكان".
الجانب الإنساني في هذه المعاناة يتجلى في التفاصيل اليومية الصغيرة. مريضة تنتظر موعد علاج، مسن يحاول الوصول إلى المدينة لقضاء معاملة، أم تخشى أن يتأخر أطفالها عن امتحان، وسائق يقلق من نهاية اليوم دون دخل. هذه القصص تتكرر يوميًا، لكنها نادرًا ما تجد طريقها إلى الاهتمام الحقيقي.
إحدى السيدات تقول: "نحن لا نطلب المستحيل. نريد فقط أن نعيش حياة طبيعية، أن نصل إلى أعمالنا ومدارسنا دون خوف أو إذلال. هذا الحصار يخنقنا ببطء".
وتؤكد مصادر محلية أن هذا النمط من الإغلاقات بات يتكرر بشكل أسبوعي، دون أي اعتبار لحياة المدنيين. الإغلاق لا يُعلن مسبقًا، ولا يُحدد بمدة زمنية، ما يجعل الفلسطينيون يعيشون حالة من عدم اليقين الدائم. التخطيط ليوم عادي أصبح مهمة شبه مستحيلة.
في ظل هذا الواقع، يضطر المواطنون لاستخدام طرق ترابية أو التفافية أطول، ما يزيد من كلفة التنقل واستهلاك الوقود، ويستنزف الوقت والجهد. البعض يختار الانطلاق قبل الفجر بساعات، تفاديًا للإغلاقات، بينما يفضّل آخرون البقاء في منازلهم، لأن الخروج بات مغامرة غير مضمونة.
الطلبة، على وجه الخصوص، يدفعون ثمنا مضاعفا. التأخير والغياب المتكرر يؤثر على تحصيلهم العلمي، ويخلق فجوة تعليمية يصعب تعويضها. أحد المعلمين يقول إن عددًا من الطلبة باتوا يعانون من الإرهاق والتشتت، نتيجة ساعات الانتظار الطويلة على الطرق



















